فقاعة الذكاء الاصطناعي.. هل تشهد الأسواق العالمية تصحيحاً يهدد ثورة التكنولوجيا؟
في حياتنا
اليومية، أصبح الذكاء الاصطناعي القوة الخفية التي تدير الكثير من تفاصيلنا؛ من
كتابة رسائل البريد الإلكتروني، مرورًا بتصميم الصور، وصولاً إلى اتخاذ قرارات
مالية معقدة، هذا الشعور بالإعجاب والدهشة تجاه إمكانيات هذه التقنية انعكس بشكل
جنوني على الأسواق العالمية.
في غضون عامين
فقط، تضاعفت عشرات المرات القيمة السوقية للشركات التي تقف خلف هذه الثورة، سواء
كانت شركات عملاقة لتصنيع الرقائق أم منصات برمجية ذكية، أصبحت أسهم هذه الشركات
هي المحرك الأساسي لارتفاع مؤشرات الأسهم العالمية؛ حتى إن البعض وصفها بـ«الذهب
الجديد» الذي لا نهاية لارتفاعه.
لكن مؤخرًا،
بدأت الأصوات ترتفع في قاعات التداول الكبرى، محذرة من أننا قد نكون بصدد تكرار
لسيناريو مرعب؛ فقاعة اقتصادية جديدة، هذا يعني أن الأسعار التي يشتري بها
المستثمرون أسهم هذه الشركات أصبحت ضخمة جدًا، هذه التقييمات لا تعكس الأرباح التي
تجنيها الشركات الآن، بل تعكس أحلامًا وطموحات قد تتحقق أو لا تتحقق.
فهل نحن نعيش
لحظة انفصال بين الواقع والحماس؟ وماذا يعني هذا الهبوط المفاجئ والمخيف لأسهم
التكنولوجيا على مدخراتنا واقتصاداتنا ككل؟
كيف تتكون الفقاعة؟
تخيل أنك ترغب
في شراء شقة سكنية، عادة ما تدفع سعرًا يعكس القيمة الحالية للشقة؛ موقعها،
مساحتها، وأجرة الإيجار التي يمكن أن تولدها لك اليوم، هذا هو المنطق الاقتصادي
السليم الذي يحكم معظم عمليات الشراء.
لكن في عالم
الذكاء الاصطناعي، اختلف هذا المنطق تمامًا، ما حدث هو أن الحماس لثورة المستقبل
وصل إلى ذروته، فتحول الأمر إلى ما يشبه مزاداً علنياً لا يتوقف.
القفز إلى المستقبل.. التقييم بناءً على الأحلام
عندما ارتفعت
أسهم شركات الذكاء الاصطناعي بشكل جنوني، لم يكن المستثمرون يشترون السهم بناءً
على أرباح الشركة في عام 2025، بل كانوا يدفعون سعرًا مرتفعًا جدًا بناءً على
اعتقادهم بأن الشركة ستجني أرباحًا هائلة في عام 2035م!
وهذا هو أساس
الخطر، المستثمرون يدفعون حاليًا 100 ضعف (أو ربما أكثر) مما تجنيه الشركة فعليًا
في الوقت الحاضر، على أمل أن تحقق الشركة توقعات النمو الهائلة هذه في المستقبل.
متى تنفجر الفقاعة؟
عندما تكون
الأسعار مرتفعة بهذا الشكل وتعتمد على توقعات بعيدة جدًا، فإن أي خبر سيئ أو أي شك
بسيط يمكن أن يهز الثقة ويفجّر الفقاعة، على سبيل المثال:
1- إذا أعلنت
إحدى الشركات العملاقة أن أرباحها في هذا الربع كانت أقل بقليل من توقعات
المستثمرين.
2- ظهور منافس
جديد يهدد هيمنة شركة قائمة.
3- عندما يبدأ
المستثمرون الكبار في جني الأرباح (أي بيع ما اشتروه بسعر مرتفع)، يخشى الجميع من
أن يفوتهم البيع قبل الهبوط، فيبدؤون بالبيع أيضًا، وتتحول العملية إلى انهيار
متسارع.
هذا التناقض بين
القيمة الحالية (ما تجنيه الشركة اليوم) والقيمة المتوقعة (أحلام الغد) البذرة
التي تنمو منها الفقاعة، وتصبح الأسواق عرضة للهزات المفاجئة التي شهدناها مؤخراً(1).
من المستفيد الحقيقي؟
عند الحديث عن
الذكاء الاصطناعي، يتركز الاهتمام عادة على التطبيقات التي يستخدمها الناس مباشرة
مثل أنظمة الدردشة الذكية أو برامج إنشاء الصور وتصميم الإعلانات، ومع ذلك، فإن
الشركات التي تقدم هذه الخدمات ليست بالضرورة المستفيد الأكبر من الطفرة الحالية،
فبينما يحقق بعض مقدمي التطبيقات نجاحًا ماليًا ملحوظًا، إلا أن الغالبية تواجه
منافسة شرسة وتكاليف تشغيل مرتفعة، ولا تصل إلا قلة منها إلى أرباح كبيرة
ومستدامة.
في المقابل،
هناك فئة أخرى تحقق عوائد ضخمة ومستقرة، وهي الشركات التي تبني البنية التحتية
الأساسية وتصنع الأدوات اللازمة لتطوير وتدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي (مثل
الرقائق الإلكترونية المتطورة، والخوادم، ومعدات التبريد) مثل شركة «إنفيديا» (Nvidia) وغيرها،
وهي المستفيد الحقيقي من الطفرة الحالية، فهي تبيع التكنولوجيا التي تحتاجها كل
الشركات دون استثناء، هذه الشركات لا تحتاج أن ينجح تطبيق واحد بعينه لتربح؛ فهي
تبيع أدواتها للجميع: سواء كانت شركات كبرى مثل جوجل ومايكروسوفت، أو شركات ناشئة
صغيرة تبحث عن موطئ قدم في السوق، ولهذا فإنها تحقق أرباحًا مستمرة دون الحاجة إلى
نجاح تطبيق بعينه.
هذه المفارقة هي
ما يفسر تضخم القيمة السوقية للشركات العاملة في البنية التحتية، حيث تتركز
الاستثمارات ورأس المال حاليًا لديها بشكل غير مسبوق.
لكن.. ما الخطر هنا؟
عندما تتكدس
القيمة بهذا الشكل في هذه الشركات، تصبح أي هزة في توقعاتها كارثة، إذا أعلنت شركة
تصنيع رقائق أنها تتوقع مبيعات أقل في الربع القادم لأن منافسًا جديدًا ظهر، أو
لأن الشركات الكبرى بدأت تبني أدواتها بنفسها، ينهار سهمها ويسحب معه السوق بأكملها.
وهذا بالضبط ما
بدأنا نشهده من تقلبات؛ حيث بدأت الأسواق تدرك أن حتى شركات البنية التحتية ستتعرض
للمنافسة عاجلاً أم آجلاً، وأن هذه الارتفاعات لن تستمر بالزخم نفسه إلى الأبد، ما
أدى إلى تراجع الثقة والبدء في موجات البيع الأخيرة(2).
ما الذي يعنيه التصحيح بالنسبة لنا؟ التأثير على الحياة اليومية
بعد أن عرفنا
كيف تتكون الفقاعة ومن هم المستفيدون الرئيسون حاليًا، يتبقى السؤال الأهم: كيف
يؤثر هذا التقلب في أسهم هذه الشركات على حياتنا اليومية ومدخراتنا؟
التأثير ليس
بعيدًا كما قد نتخيل، بل إنه يلامس مدخراتنا واستثماراتنا من 3 جوانب رئيسة:
1- تأثير «المال
الوهمي» على الاقتصاد الحقيقي: عندما ترتفع أسهم الشركات بشكل غير منطقي، يشعر
الناس والمستثمرون بأنهم أكثر ثراءً، وهو ما يُعرف بـ«تأثير الثروة»(3)؛
نتيجة لهذا الشعور يزيد الأشخاص إنفاقهم على السلع والخدمات؛ ما يحفز الاقتصاد.
لكن عندما تبدأ
هذه الأسهم في التراجع نتيجة التصحيح أو انفجار الفقاعة، يتبخر هذا الثراء الوهمي
بسرعة، ويقل الإنفاق، وتتردد الشركات في التوظيف أو الاستثمار؛ ما قد يؤدي إلى
تباطؤ اقتصادي أوسع.
2- ضربة لصناديق
التقاعد والمدخرات، أغلب صناديق المعاشات وصناديق التأمين تستثمر جزءًا كبيرًا من
أموالها في الأسواق المالية، وتحديدًا في الأسهم الأكثر نموًا، التي غالباً ما
تكون أسهم التكنولوجيا في صدارتها.
عندما تهبط هذه
الأسهم بشكل حاد، فإن قيمة المدخرات طويلة الأجل في هذه الصناديق تتأثر بشكل
مباشر، هذا التراجع قد يعني أن مدخراتك ستكون أقل قيمة مما كنت تتوقع، وأنك ربما
تحتاج لاستثمارات أخرى لتعويض الخسائر.
3- التصحيح
الصحي: على الرغم من الأخطار، فإن التصحيح ليس دائمًا سيئًا؛ قد يكون ضروريًا
وصحيًا للسوق، من عدة أوجه منها:
- إزالة الشركات
الضعيفة: عندما تنتهي موجة الحماس، تبدأ السوق في التمييز بين الشركات التي تملك
أساسًا قويًا وأرباحًا حقيقية، وتلك التي تضخمت تقييماتها لمجرد الارتباط باسم
الذكاء الاصطناعي.
- خلق فرص
استثمارية: للمستثمر الذي يفكر على المدى الطويل، فإن انخفاض الأسعار يمثل فرصة
لشراء أسهم الشركات ذات التقنية الجيدة والقوية بسعر منطقي عادل، بعد أن كانت تباع
بأسعار مبالغ فيها جدًا.
في النهاية، إن
ثورة الذكاء الاصطناعي حقيقة ومستمرة لا رجعة فيها، وهي القوة التي ستعيد تشكيل
الاقتصاد العالمي وطريقة عملنا وحياتنا، لكن ما نشهده في الأسواق العالمية مؤخرًا
ليس تشكيكًا في قوة الذكاء الاصطناعي، وإنما تشكيك في قيمة الأسهم التي تمثل هذه
الثورة، لقد أصبحت الأسعار مستقبلية، وقفزت بعيدًا عن الواقع الحالي للأرباح.
وهنا نوجه رسالة
مهمة: إن التقلبات الحالية في أسواق التكنولوجيا في جوهرها عملية إعادة ضبط
ضرورية، ومحاولة لإعادة التوازن بين:
1- الحماس
المفرط والأحلام الضخمة للمستقبل.
2- المنطق
الاقتصادي والأرباح الفعلية التي تجنيها الشركات اليوم.
هذه التقلبات
تذكرنا بأن الاستثمار القائم على التهور والحماس فقط ينتهي بخسارة للمدخرات، ويجب
أن يحل محله الاستثمار القائم على المنطق والأرباح الحقيقية، وأن الفقاعات المالية
تفرز دائمًا فائزين وخاسرين، القيمة لن تذهب سدى؛ بل ستنتقل من الشركات التي تضخمت
تقييماتها دون أساس إلى الشركات الأكثر ابتكارًا وقدرة على جني أرباح حقيقية على
المدى الطويل.
وبدلاً من الهلع
من التصحيح، يجب أن ننظر إليه كفرصة للمستثمر لإعادة تقييم مدخراته بوعي وحكمة،
بعيدًا عن ضجيج الحماس وارتفاع الأسعار الجنوني.
اقرأ أيضاً:
- آفاق الاقتصاد الإبداعي.. بين الإنسان والذكاء الاصطناعي
- الذكاء الاصطناعي.. 5 تأثيرات اجتماعية ينتظرها العالم
- قراءة في كتاب «الذكاء الاصطناعي ثورة في تقنيات العصر»
__________________
(1) Bloomberg، (2025).”
Bloomberg Daybreak: Global Markets Extend Selloff”, Available at:
https://www.bloomberg.com/news/audio/2025-11-18/bloomberg-daybreak-global-markets-extend-selloff-podcast
(2) Bloomberg، (2025)، “Stocks Drop in Deepening Global Equities Selloff”، Available at:
https://www.bloomberg.com/news/live-blog/2025-11-18/ftse-100-bitcoin-price-stocks-selloff-reeves-uk-budget-what-s-moving-uk-markets-right-now-markets-today
(3) Daniel Liberto، (2024)، “The Wealth Effect: Definition and Examples” Available at:
https://www.investopedia.com/terms/w/wealtheffect.asp