من التواصل إلى النميمة الرقمية!

د. عمرو نافع

13 نوفمبر 2025

113

في زمنٍ باتت فيه الشاشة الصغيرة نافذةً على العالم، تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي من منصّات للتعارف وتبادل المعرفة إلى ساحةٍ تضجّ بالأخبار، والتعليقات، والآراء، وأحيانًا بالشائعات والنميمة، أصبح من الواجب أن نفهم سوسيولوجية علاقة المستخدمين بالأدوات الإخبارية ومدى تحقق سرعة وانتشار الأخبار ومدى مصداقية هذه المنصّات، التي وُلدت لتقرّب المسافات بين البشر، صارت في بعض أوجهها تُبعدهم عن الحقيقة، وتجعلهم في عوالم افتراضية بعيدة عن الواقع، حتى أصبحنا نعيش ما يمكن وصفه بمجتمع النميمة الرقمية.

كانت فكرة وسائل التواصل الاجتماعي في بدايتها نبيلة ومُلهمة وعبقرية، وكانت أرخص من وسائل التواصل المعتادة مثل الهاتف الأرضي، والتلكس والبريد الورقي والسريع، فقد منحت الأفراد القدرة على إيصال أصواتهم، ومشاركة خبراتهم، وتبادل الأفكار مع العالم دون قيود، ولكن مع مرور الوقت، تحوّل هذا الانفتاح إلى فوضى معلوماتية، صار كل شخص يحمل هاتفًا ذكيًا يظنّ أنه صحفيّ ميداني، ينشر الأخبار قبل التحقق منها، ويشارك القصص التي تُثير الجدل، دون أن يدرك أثرها على الآخرين.

ولعلّ المثال الأبرز هو ما يحدث يوميًا على منصة «إكس»، أو «فيسبوك»، حين تنتشر شائعة عن وفاة أحد المشاهير أو فضيحة تخص شخصية عامة، أو تناول قضية اجتماعية حساسة لتملأ المنصات خلال دقائق، ثم تُكذَّب في اليوم التالي، ومع ذلك، يبقى أثرها النفسي والاجتماعي قائمًا؛ لأن الناس تميل إلى تصديق أول خبر تسمعه، لا التوضيح الذي يأتي لاحقًا.

النميمة الرقمية

النميمة ليست اختراعًا حديثًا، بل عادة بشرية قديمة قِدم المجتمعات نفسها، لكن الفرق اليوم أن النميمة لم تعد تُقال همسًا في المجالس، بل تُكتب وتُعاد مشاركتها آلاف المرات في ثوانٍ، في الماضي، كانت الشائعة تحتاج إلى أيام وربما أسابيع لتنتشر في قرية صغيرة، أما اليوم فهي تجوب الكرة الأرضية في أقل من دقيقة.

يكفي أن ينشر شخص ما تغريدة مشبوهة أو تسريبًا صوتيًا، حتى يبدأ الآخرون بالتفاعل دون تحقق أو تفكير، وهكذا، تتحول المنصات إلى سوق مفتوحة للنميمة، حيث يتنافس المستخدمون على من ينشر السبق الأسرع، لا من ينشر الحقيقة الأصدق.

تكمن خطورة الشائعات في قدرتها على التسلّل إلى العقول دون استئذان، ومن خلال مواقع التواصل تكمن المشكلة والخطورة، فهي لا تحتاج إلى منطق أو دليل كي تُصدَّق، بل إلى عاطفةٍ تُغذّيها، وسرعة في الانتشار.

وهناك شائعة ناجحة، وهناك شائعة فاشلة، كل شائعة ناجحة تقوم على مزيج من الفضول والخوف والرغبة في التصديق، وبها خط حقيقي يبدأ به مروجها في الانتشار، ولهذا السبب، تُستخدم الشائعات اليوم كسلاح ناعم في الصراعات السياسية، والحروب الإعلامية، وحتى المنافسات التجارية.

على سبيل المثال، شهدنا في السنوات الأخيرة استخدام الجيوش الإلكترونية لنشر أخبار مضللة بهدف تشويه سمعة منافسين أو توجيه الرأي العام، في الانتخابات الأمريكية عام 2016م، لعبت الشائعات عبر «فيسبوك» و«تويتر» دورًا كبيرًا وبارزًا في تشكيل قناعات الناخبين الأمريكيين من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، وفي عالمنا العربي، لا تمر أزمة أو حدث سياسي إلا وتتصاعد حوله موجة من المعلومات الكاذبة وغير المؤكدة تُغرق المتابعين بين الحقيقة والوهم.

وجبة يطلبها الجمهور

قد يبدو غريبًا أن نلوم التقنية وحدها في انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة، بينما المشكلة في الإنسان نفسه، فحبّ النميمة ليس ناتجًا عن وجود «تطبيق»، بل عن رغبة فطرية لدى الإنسان في معرفة ما يجهله، وخاصة الأسرار الخلفية داخل الأبواب المغلقة، لذلك، فمعظم عناوين الصحف تكون أسرار خبايا خلفيات، وكلها تشي بأن وراء القصة ما لا نعرفه، في الحديث عمّا يخص الآخرين أكثر مما يخص نفسه.

سيكولوجية النفس الإنسانية تفسّر ما يطلق عليه علماء النفس بـ«إشباع الفضول الاجتماعي»؛ أي ميل الأفراد لمعرفة الأسرار ومتابعة الأخبار الخاصة بالآخرين كوسيلة لقياس الذات أو الشعور بالأهمية، ومع منصّات التواصل، صار هذا الإشباع متاحًا على مدار الساعة، بضغطة زرّ واحدة، والأشخاص مستلقون على ظهورهم.

أخلاقيات التواصل

معظم الشركات المالكة لهذه المواقع تتحمّل جزءًا من المسؤولية في الحدّ من الأخبار الزائفة، عبر أدوات التبليغ وخوارزميات التحقق، لكن يبقى الدور الأكبر على المستخدم نفسه وأخلاقياته وثقافته ووعيه، فالتقنية ليست خيرًا أو شرًّا بذاتها، بل تُصبح كذلك بحسب من يستخدمها.

فحين يشارك شخص ما منشورًا دون التأكد من مصدره، فهو لا يُعبّر عن رأي فحسب، بل قد يُدمّر سمعة شخص أو يُثير ذعر مجتمع، وفي المقابل، حين يتريّث المستخدم ولا ينقل كل ما يراه على الشاشات ثم يتحقق من المعلومة، فهو يُسهم في بناء بيئة رقمية أخلاقية آمنة، أكثر وعيًا ومسؤولية.

وهنا يمكننا أن نرى كثيرًا من النماذج الإيجابية لهذا الأمر في الحسابات التي تُعنى بتفنيد الأخبار الزائفة، مثل حسابات التحقق من الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، أو مواقع التحقق الدولية مثل «Snopes»، التي تعمل على فضح الشائعات بسرعة وتوضيح الحقائق للمتابعين وكشف الصور والفيديوهات الزائفة التي يروج لها البعض.

إن مواجهة مجتمع النميمة والشائعات لا تتم بالحظر أو المنع مطلقًا، فالمنع يؤدي إلى الانتشار، بل وجزء من إشاعات المنع أصلًا إشاعة يقوم بها الأفراد لترويج الإشاعة أكثر فأكثر، بل يجب أن يكون ذلك بالوعي والتربية الأخلاقية، فعلينا أن نعلّم أبناءنا منذ الصغر أن ليس كل ما يُنشر حقيقيًّا، وليس كل ما يلمع ذهبًا، وأن الكلمة الإلكترونية قد تجرح كما يجرح السيف تمامًا.

وبناء ثقافة أخلاقية رقمية صالحة ناضجة يعني أن نُدرك أن الحرية على الشبكات ليست فوضى، وأن المسؤولية جزءٌ لا يتجزأ من عملية التعبير، فكما نرفض القيل والقال في الواقع، يجب أن نرفضه في الفضاء الافتراضي أيضًا.

تحقق قبل أن تنشر

لقد أعطتنا مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لا مثيل لها للتعبير والاتصال، لكنها في الوقت نفسه وضعت أمامنا تحديًا أخلاقيًا كبيرًا، كيف نستخدم هذه الحرية دون أن نتحوّل إلى مجتمع من النمّامين؟

الإجابة تبدأ من قرار بسيط بعدم مشاركة ودعم ما لم نتأكد من صدقه، ومن وعيٍ بأن كل «إعجاب» أو «إعادة تغريد» قد تكون رصاصة في سمعة أحدهم أو حجرًا في جدار الكذب؛ ما يعرف بنظرية «رفرفة الفراشة».

من الممكن أن تؤدي إلى نظرية الفوضى العارمة، وهو تصور لكيف يمكن أن تسبب هذه الرفرفة دمارًا في أقصى أنحاء العالم، إلى انتقال مؤثر في أقصى مكان ممكن، فتأثير الفراشة أو «The Butterfly Effect» تعبير يصف التأثير الناتج عن فعل تافه، بمعنى أن فعلاً صغيراً جدًا يمكن أن ينتج عنه سلسلة أحداث متتابعة ومترابطة، والمثال على ذلك، «الدومينو»، فدفع واحدة كفيل بجعل الكل يسقط تباعًا دون استثناء، فنظام تأثير الفراشة يصور سلوك ديناميكية الكون، الذي قد يؤدي ببساطة إلى سلسلة من الكوارث، فمثلًا، على رأس جبل ثلجي، كرة ثلجية صغيرة متدحرجة يمكن أن تولد لنا دمارًا.

إن لم نحسن استخدام الكلمة الرقمية والمواقع الذكية، فستستخدمنا هي بطريقتها، وإن لم نحرس الحقيقة، ستغرقنا الشائعات، فليكن شعارنا في هذا العصر «تحقق قبل أن تنشر، وتأمل قبل أن تحكم».


اقرأ أيضاً:

تسريبات المدينة المنورة.. المشهد الأخطر!

التسريبات الإباحية.. الآثار وطرق المواجهة

نشر الفضائح الإلكترونية.. بين كشف الفساد وانتهاك الحرمات

أزمة خصوصية الدعاة في عصر التواصل الاجتماعي

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة