أزمة خصوصية الدعاة في عصر التواصل الاجتماعي

ظلت المنابر على مر الزمان رمزا لهداية القلوب وملاذ السائلين، ومرجع التائهين والحيارى وعابري السبيل إلى الله ، وكان المشايخ والدعاة محط أنظار الناس للاقتداء بهم واللجوء إليهم في أوقات الضيق والحاجة، حتى في مواجهة الظالمين من السلاطين عبر الزمان، لم يكن لأحد أن يتخيل أن يأتي عصر تصبح فيه الشاشات هي المنابر، وأن تتحول الدعوة إلى الله إلى بث مباشر، يستلل فيه الجمهور إلى تفاصيل الحياة الشخصية كما يتسلل الضوء من بين ستائر بيت مضاء ومكشوف للعامة، إنها معركة جديدة يخوضها الدعاة اليوم، معركة الحفاظ على الخصوصية في زمن ى خصوصية فيه، بين واجبهم في البلاغ وميل الناس إلى التطفل، بين قداسة الرسالة وضجيج المنصات

من المنبر إلى المنصة، ولادة الداعية الرقمي

لم يعد الداعية كما كان في الماضي صوتا يسمع من فوق منبر، أو قلما يكتب في صحيفة، بل صار صورة ترى، ومقطعا يقتطع، وتعليقا يفسر على وجوه عدة، تحولت الدعوة في عصر التواصل الاجتماعي إلى مزيج من الخطاب والإعلام، وصار النجاح يقاس بعدد المتابعين لا بعدد المستجيبين، ومع هذا التحول، ولد نوع جديد من الدعاة: الداعية المؤثر، الذي يقف في منطقة حرجة بين الرسالة والمحتوى، بين الإخلاص وحب الظهور، بين أن يبلغ الحق، أو يرضي الخوارزميات، وهنا تكمن المعضلة، حين يصبح الخطاب الدعوي خاضعا لآليات السوق الرقمي، يتسرب من قدسيته ما يجعله هشا أمام الجمهور المتعطش للتفاصيل لا للمعاني، إن الداعية كان ينظر إليه كصوت يذكر بالآخرة، صار يتابع لمعرفة ما يفعله في يومه، ماذا يرتدي، ومن يصاحب، علاقته بأهله، علاقاته بالآخرين، ماذا قال في لحظات غضبه أو عتاب، وهكذا بدأ الانكشاف

الخط الرفيع بين الحياة العامة والحياة الخاصة للداعية

في الأصل، الداعية إنسان، له حياته الخاصة كأي إنسان، له أسراره وعلاقاته وأخطاؤه الصغيرة التي لا تمس جوهر دعوته، ومن حقه أن يحترم الناس تلك الخصوصيات والأسرار، لكن مواقع التواصل الاجتماعي جعلت تلك الحياة الخصوصية مهدرة، فصار كل شيئ ينشر قابلا لأن يؤول، وكل ما يصور قابلا لأن يستغل، ومن هنا نشأ سؤال الأخلاق، هل يحق للناس أن يحاكموا الداعية على تفاصيل حياته الشخصية؟ وهل يفقد الإنسان حقه في الخصوصية لمجرد أن يتحدث باسم الدين؟ وهل من حقهم أن يحاسبوه حتى على حرية الخطأ التي كفلها الله للبشر وأتاح لهم سبحانه أن يعودوا نادمين مرة أخرى، وأن هذا الندم يجب من قبله ويبدأ الإنسان في كل مرة من جديد؟  لقد حمى الإسلام الإنسان من هذا التطفل ولو كان المقصود داعية إلى الله، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا" (الحجرات 12)، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله وعورته، ومن تتبع عورته فضحه ولو في جوف بيته"، هذه النصوص لا تدع مجالا للشك في أن لكل إنسان حرمة تصان، وبيتا يغلق على أسراره، والدعاة جزء من البشر لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، لكن المشكلة والتقصير ليس في النصوص، وإنما في فهم الناس حين يرفعون الستر عن البعض لمجرد أنهم مشاهير، إنها ثقافة تستمتع بهتك الستر

حادثة الإفك: حين واجه النبي أزمة الخصوصية

من أبلغ الشواهد التاريخية على هذا الموضوع حادثة الإفك التي مست بيت النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وصارت الشائعة في لحظة واحدة قضية رأي عام في مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي أحب نسائه إليه، شائعة صنعها منافق، ثم تداولها الناس على ألسنتهم دون وعي، منهم من صدق ، ومنهم من تردد، ومنهم من خاض مع الخائضين، بل وبعضهم اهتزت ثقته برمز الدعوة الأعظم في المدينة، وهنا يأتي السؤال الحكيم: كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه العاصفة التي كادت أن تودي بمجتمع المدينة فيهلكوا جميعا؟

لم يرد بغضب أو فضح، بل واجهها بالصبر، والحكمة، والاحتكام إلى الله، لم يطلق الاتهامات، ولم يطلب الانتقام، بل ترك القضية حتى نزول الوحي رغم الألم الذي يعتمل في قلبه كزوج محب أوجعته الشائعة كأي رجل حر، ويتنزل القرآن: "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم..." (النور11)، وتظاتي البراءة كالشمس في وضح النهار لتثبت أن الشائعة ليست مجرد كلمات قيلت، وإنما جريمة تهز البيوت والمجتمعات وإثم هدم ثقة الأمة بنفسها، لقد علم النبي الأمة أن السكون الحكيم أحيانا أبلغ من الرد، وأن البراءة لا تحتاج إلى صراخ ، بل إلى ثقة بالله وعدله

وما أشبه اليوم بالبارحة

فما يحدث اليوم على المنصات من حملات تشهير أو “إلغاء” للدعاة بسبب مواقف أو شائعات، يشبه في جوهره تلك الفتنة القديمة، لكن بأدوات حديثة وألسنة إلكترونية لا تهدأ

الإعلام الجديد وابتلاع الرموز

الإعلام الحديث لا يرحم، ومنصاته لا تعرف الحياد، إنه فضاء يقوم على الترند، لا على الحقيقة، وعلى الإثارة لا على التثبت، فكلما ازداد الجدل، زادت المشاهدات، وكلما سقط رمز، ربح التطبيق مزيدا من الأرباح، وفي هذه الأجواء، يصبح الداعية عرضة للهجوم المستمر، لأن كل حركة تفسر، وكل صمت يتهم، وكل كلمة تجتزأ، لقد ابتلعت المنصات الرموز، فلم تعد تميز بين عالم وتاجر وفنان، بين خطأ بشري وخطيئة مقصودة، وهنا تتحول الدعوة من خطاب يهدف إلى الهداية، إلى عرض جماهيري تفاعلي، يغيب فيه جوهر الرسالة أمام بريق الصورة

فإذا سقط الداعية في زلة، انهال عليه الناس بالهجوم لا بالنصيحة، وكأنهم ينتظرون سقوطه ليبرروا عجزهم عن الارتقاء

الداعية والإنسان: مسؤولية مزدوجة

لا شك أن الداعية، بحكم موقعه، يتحمل مسؤولية مضاعفة في سلوكه العلني، لأن الناس تقتدي به وتربط أقواله بأفعاله، كن هذه المسؤولية لا تعني نزع إنسانيته، إنه بشر يصيب ويخطئ، يفرح ويحزن، يضعف ويقوَى، المجتمع الذي يرفض الاعتراف بإنسانيته، هو نفسه الذي يضعه على منصة الإعدام عند أول هفوة

على الداعية أن يدرك أنه يعيش في زمن الصورة، وأنه لا يستطيع الانعزال تماما عن أعين الناس، لكنه يستطيع أن يختار ما يشاركهم فيه، وأن يحافظ على مساحة له ولأهله بعيدة عن الأضواء، وعلى الجمهور أن يدرك أن الدعوة ليست مسابقة للملائكة، بل مدرسة للبشر، إن أخطاء الدعاة لا تلغي دعوتهم، بل تذكرنا بأنهم يعيشون ما يدعون إليه، ويجاهدون فيه مثلنا

أخلاقيات التعامل مع الدعاة على المنصّات

من المؤسف أن تتحول مواقع التواصل إلى محاكم مفتوحة، يدان فيها الناس بلا بينة ولا دفاع، ففي كل أزمة، يخرج جيش من “القضاة الافتراضيين” الذين ينصبون المشانق بالكلمات، بينما النص القرآني الصريح يجيب عليهم: "ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين" [النور: 12]، وهذا هو واجب المسلم عند سماع الشائعة، هو حسن الظن، لا نشره، وليستعموا إن شاؤوا لقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع" (أخرجه مسلم)، إن أخطر ما يهدد الدعوة اليوم ليس الإلحاد ولا التغريب، بل فقدان الثقة بين الناس ودعاتهم بسبب ثقافة الفضح والاستعراض، وإذا سقطت الثقة، سقط الخطاب كله

بين قداسة المنبر وضجيج الشاشة

في النهاية، لا أحد يطلب من الداعية أن يعيش في برج معزول، ولا من الناس أن يغلقوا أعينهم عن الخطأ، لكن المطلوب أن نحافظ على الميزان الأخلاقي في النظر إلى الرموز، أن نفرق بين من يخطئ ويعتذر، ومن يتاجر بالدين، بين من سقط في لحظة ضعف، ومن جعل السقوط منهجا، لقد علمنا الإسلام أن الستر أصل، والفضيحة استثناء، وأن الله يحب العفو، لا التشهير، فإذا صار المجتمع مولعا بالفضح، خسر إنسانيته قبل أن يخسر دعاته

إننا لا نحتاج إلى دعاة بلا خطأ، بل إلى دعاة يعترفون بخطئهم لربهم، ويواصلون الإصلاح رغك العثرات

فما أحوجنا اليوم إلى أن نعيد للدعوة معناها، وللخصوصية حرمتها، وللأخلاق مكانها في عالم صار يستهلك كل شيء... حتى الفضيلة نفسها.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة