كيف تعيننا السُّنة على بناء المستقبل؟

د. أشرف عيد

27 سبتمبر 2025

120

السُّنة النبوية منهج حياة، ونموذج بناء حضاري إذا توفرت الإرادة والعزيمة في الاهتداء بها، وأحسنا فهمها ودراستها في ضوء العلوم الحديثة في السياسة والإدارة والعلوم العسكرية، والعلوم الاقتصادية والدراسات الاجتماعية والتربوية والنفسية؛ فيستطيع الإنسان بناء حاضره ومستقبله مع تطور الحياة في مختلف العصور.

السُّنة النبوية ترشدنا إلى التفكير الإستراتيجي

إذا كانت الحكومات تضع خططًا إستراتيجية تمثل رؤيتها للمستقبل القريب؛ فإن السُّنة النبوية أرشدتنا إلى حسن التدبير، والتفكير العميق، والنظر إلى العواقب، واستثمار الفرص، والأخذ بالأسباب، والاستفادة من تجارب الأمم؛ وقدمت نموذجًا متكاملًا في وضع الخطط الإستراتيجية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يطلق عليه «التفكير الإستراتيجي»، وهذه نماذج من رؤية السُّنة في بناء المستقبل للتمثيل لا الحصر:

  • استثمار فرص الحياة والتخطيط للطوارئ:

إن نجاح الإنسان في الحياة يعتمد بصفة أساسية على استغلال فرص الحياة واستثمارها، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1)؛ فالشباب والصحة والمال والوقت ثروات لا تعوض.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدبر معيشة أهله لعام مقبل؛ فيبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم(2)، وأرشد سعد بن أبي وقاص أن يدخر لأولاده ما يعينهم في مستقبلهم، قائلًا له: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»(3).

  • الاستفادة من تجارب الأمم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفيد من تجارب الآخرين فيما يخص شؤون الحياة بما يعود على المسلمين بالمنفعة، ففي غزوة «الأحزاب» استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وهي وسيلة لم يكن العرب يعرفونها، فعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحققت أعظم النتائج، فلما وقفت قريش على الخندق قالوا: والله إن هذا لمكيدة ما كانت العرب تكيدها(4).

  • الأخذ بسنن القوة في الحياة:

إن بناء المستقبل لا يقوم إلا على القوة الشاملة؛ قوة الإيمان، وقوة الوحدة، وقوة الاقتصاد، وقوة السلاح، والسُّنة النبوية زاخرة بالتوجيهات العملية التي تحفّز الأمة على امتلاك أسباب القوة، لأن الضعف يؤدي إلى التبعية والخذلان، بينما القوة تحفظ للأمة كرامتها واستقلالها، ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»(5).

وأولى النبي صلى الله عليه وسلم اهتمامًا كبيرًا بترسيخ الوحدة السياسية للأمة، والاستقلال الاقتصادي والتنمية طريق التحرر من القيود وعدم التبعية للآخرين، إدراكًا منه أن التشرذم سبب للضعف والهزيمة، فالوحدة السياسية ضرورة إستراتيجية لاستمرار الأمة وبناء مستقبلها، وقد أشار القرآن والسُّنة إلى ذلك في كثير من المواضع منها قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا.) (آل عمران: 103).

وتطوير القدرات العسكرية ضرورة لحماية الأمة وردع أعدائها، وترشدنا السُّنة إلى التدريب على أحدث الأسلحة من وسائل القوة، وكان الرمي بالنبل من فنون الحربية الحديثة في عصره، فيقول تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»(6).

وهذا يدل على وجوب مواكبة الأمة لكل ما يجدّ في مجالات التسليح والتدريب، ومن لم يمتلك القدرة على القتال؛ فليجهز غازيًا، «فمن جهّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير، فقد غزا»(7).

نتعلم من السُّنة النبوية فن إدارة الأزمات

لا تسلم الدول من التعرض لأزمات مختلفة غير متوقعة في شدتها وتحدياتها ناتجة عن الحروب أو النزاعات العسكرية أو ما تتعرض له من كوارث الجفاف أو الزلازل أو البراكين أو الأزمات الاقتصادية، وغير ذلك من التهديدات التي لا بد من مواجهتها.

وترشدنا السُّنة النبوية إلى مواجهة الأزمات، وما ينتج عنها من خوف وجوع وفقد الأموال والأنفس بالصبر والثبات وحسن التدبير والعمل على إزالتها بحكمة واقتراح الحلول.

ومواقف السيرة في ذلك كثيرة، ونكتفي بالإشارة إلى نماذج من تعامله مع الأزمات العسكرية الطارئة حيث استطاع أن يحرز النصر المطلق في غزوة «بدر»، وأن يخفف من تأثير الهزيمة في «أُحد»، وأن يحول الهزيمة إلى نصر في «حنين».

ففي غزوة «بدر»، ولم يكن في نية المسلمين قتال، ولكن بعد أن علموا بخروج قريش بعدد وعتاد أضعاف عددهم، وأصبح القتال واقعًا لا محالة، انتابهم الخوف والفزع على نحو ما وصفهم القرآن: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ) (الأنفال: 6)؛ فثبت النبي صلى الله عليه وسلم واتجه لعقد مجلس المشورة مع قادة جيشه ووضع معهم خطة القتال، واختيار موقع الجيش، وأخذ يرفع معنوياتهم بالدعاء والتضرع ويبشرهم بالنصر، والتقليل من قوة عدوهم، ويبشرهم من يُقتل منهم بالجنة؛ ما كان له أثر كبير في النصر.

ويقدم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة «أُحد» مثالًا رائعًا في الثبات في أرض المعركة رغم الهزيمة، وما أصابه من جراح بالغة، وقاتل بجانب عدد قليل من أصحابه، ولم يفر، بل طارد المشركين في اليوم التالي حتى موضع «حمراء الأسد» لإظهار قوة المسلمين وعدم استسلامهم رغم كثرة قتلاهم وجراحهم، ونزل القرآن يواسي المسلمين بأن المعارك لا تكون كلها انتصارات؛ فيوم نصر، ويوم هزيمة.

وفي غزوة «حنين» عندما باغتت ثقيف وهوازن جيش المسلمين بالهجوم؛ ما أدى إلى ارتباك وفرار كثير من المسلمين؛ فثبت النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان، ونادى على المسلمين فتجمعوا حوله، وأعاد تنظيم الصفوف وأمر الصحابة بالهجوم وتحولت الهزيمة إلى نصر.

  • التعامل مع الأزمات الاقتصادية والكوارث:

نجد النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا في حالة الأزمات الاقتصادية إلى ترشيد الإنفاق، ويحض على التكافل بين المسلمين بتقديم وسائل العون والإغاثة للمنكوبين، فيقول: «ترى المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(8).

ولعل ما يعيشه شعب غزة اليوم من كارثة إنسانية يمارسها بحقهم الاحتلال الصهيوني من تجويع قاتل، وتشريد مهين، وقتل وجرح أكثر من مائتي ألف إنسان على مدار سنتين مما يندى له جبين الإنسانية؛ تحتاج من المسلمين ودول العالم الحر التوحد والتكافل والتعاون لمساعدتهم وإغاثتهم.

  • التعامل مع الأزمات الصحية في حالة انتشار الأمراض والأوبئة:

قدمت لنا السُّنة أسس التعامل معها بحصر الوباء في منطقته، وهو ما يعرف بالعزل الصحي الذي اتبعته منظمة الصحة العالمية في التعامل مع وباء كورونا منذ سنوات، فيقول: «لا يوردنَّ ممرض على مُصح»(9)، وفي حديث آخر: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»(10).

إنّ السُّنة النبوية ليست مجرد موروث ديني، بل هي منهج حياة شامل يضع لنا القواعد الراسخة لبناء الحاضر والمستقبل، وقدّمت لنا نماذج عملية في القوة والتكافل والتخطيط، ومن يتأمل في مواقف النبي صلى الله عليه وسلم يجدها تنسجم مع السنن الكونية، وتستوعب تغيرات الحياة وتطوراتها.




_________________

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (7846).

(2) فتح الباري، كتاب النفقات، باب حبس نفقة الرجل قوت سُنة على أهله وكيف نفقات العيال (5042).

(3) المرجع السابق: كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس (2742).

(4) ابن كثير: السيرة النبوية، ج3، ص84.

(5) صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب القدر، باب الإيمان للقدر والإذعان له (2664).

(6) صحيح مسلم بشرخ النووي: كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه (1917).

(7) فتح الباري: كتاب الجهاد والسير، باب ضل من جهز غازياً أو خلفه بخير (2843).

(8) المرجع السابق: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (6011).

(9) المرجع السابق: كتاب الطب، باب لا هامة (5771).

(10) المرجع السابق: كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون (5728).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة