النظام المالي في المدينة.. كيف أسس النبي ﷺ مجتمعاً عادلاً؟

لكل مجتمع سماته
وظواهره وقوانينه وتشريعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنبع عادة من
هويته وتعبر عن ثقافته الأصيلة، وتعد المعاملات المالية جزءاً جوهرياً من حياة تلك
المجتمعات.
وقد جاء النبي
صلى الله عليه وسلم بينما المجتمعات الجاهلية غارقة في شريعة أقرب ما يمكن وصفها
به هو شريعة الغاب، حيث لا تخدم سوى أصحاب المال، وتزيد الفقراء فقراً، والمظلومين
قهراً.
وعندما هاجر
النبي صلى الله عليه وسلم، وصار للإسلام دولة تعبر عن هويته السماوية والتشريعات
التي تنزلت برفق وتدرج، وقد وجد صلى الله عليه وسلم مجتمعاً متنوعاً في مكوناته،
منهم المسلمون المهاجرون الذين تركوا خلفهم بيوتهم وأموالهم وتجارتهم وهاجروا، ثم
مجتمع الأنصار الذين يملكون الأراضي الزراعية والبيوت، واليهود الذين يسيطرون على
سوق المال من خلال التجارة والإقراض بالربا.
فكان على النبي
صلى الله عليه وسلم أن يؤسس لنظام خاص يعتمد في مصدره على شريعة الإسلام؛ حيث
العدالة والتكافل والعمل الجاد والإحسان، خالياً من الاستغلال والظلم والرأسمالية
الظالمة؛ فتتابعت التشريعات القرآنية بالتحريم والتحليل وابتكار تشريعات لم يعرفها
العرب من قبل، فأرسى مجتمعاً قوياً متماسكاً.
فما هذه الأسس
والتشريعات التي كانت أساساً لبناء مجتمع المسلمين في فجر الرسالة؟
الإطار التشريعي العام للمعاملات المالية في الإسلام
وضع النبي صلى
الله عليه وسلم أسس المعاملات المالية في الإسلام، ومن أهمها الإباحة ما لم يرد نص
بالتحريم، وتحريم الربا، وتحريم الغرر؛ وهو المخاطرة والجهالة المفرطة، بالإضافة
إلى منع أكل أموال الناس بالباطل مثل الغش والاحتكار.
ويهدف هذا
الإطار إلى تحقيق العدل والوضوح وتداول المال وتنميته بطرق مشروعة، ويرسخ للقيم
الأخلاقية ويمنع الاستغلال، يقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)؛
فتحقيق العدل والقسط في المعاملات مقصد أصيل من مقاصد التشريع، ويقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «من غشّ فليس مني» (رواه مسلم).
ثم يجب أن تسير
المعاملات المالية في إطار من التراضي بين الطرفين، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن
تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، وفي المجتمع المسلم يحرم الاحتكار، لما
ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» (رواه مسلم)، ويجب
أيضاً تحقيق المقاصد الخمسة للشريعة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل وحفظ
المال كمقصد رئيس في باب المعاملات.
مصادر الإطار التشريعي للمعاملات المالية
1- القرآن
الكريم: فقد تعددت الآيات القرآنية في توضيح المعاملات الإسلامية بين المسلمين،
ومن هذه الآيات قول الله تعالى في تحريم الربا: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة:
275)، وفي تحريم أكل مال الناس بالباطل: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة:
188)، وفي الأمر بالوفاء بالعقود: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1).
2- السُّنة
النبوية: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحلّ
حراماً أو حرّم حلالاً» (رواه الترمذي)، ويقول: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»
(متفق عليه)، وفي نهيه عن بيع الغرر يقول: «نهى رسول الله عن بيع الغرر» (رواه
مسلم).
3- الإجماع
والقياس: وقد أجمع العلماء على تحريم الربا بجميع صوره، وأجازوا المستجدات في
المعاملات المالية على ما ورد في النصوص، مثل الأوراق النقدية المعاصرة، قياساً
على الذهب والفضة.
أبرز المعاملات المالية المباحة
1- البيع
والشراء: مع الالتزام بشروطه الشرعية (التراضي، العلم بالثمن والمثمن، خلوّه من
الربا والغرر).
2- الإجارة: وهي
عقد على منفعة بعوض، قال تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) (القصص: 27).
3- المضاربة:
مشاركة بين رأس المال والعمل، عمل بها الصحابة رضي الله عنهم.
4- المزارعة
والمساقاة: أجازها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث خيبر عن عبدالله بن عمر قال:
لما افتتحت خيبر سألتْ يهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُقرّهم فيها، على
أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «أُقركم فيها على ذلك ما شئنا» (رواه البخاري).
المبادئ الأخلاقية في المعاملات
1- الصدق
والأمانة: قال صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين
والشهداء» (رواه الترمذي).
2- التيسير ورفع
الحرج: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» (رواه البخاري).
3- التكافل
المالي: كتحريم الربا وفرض الزكاة لضمان توزيع عادل للثروة.
إنشاء السوق الإسلامية وتنظيمها
من أهم خطوات
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إنشاء سوق حرة مستقلة، بعدما كان اليهود
يحتكرون التجارة عبر سوق بني قينقاع، وقد أنشأ النبي صلى الله عليه وسلم سوقاً في
موضع مفتوح، وجعلها بلا رسوم أو ضرائب، ومنع فيها الممارسات الاحتكارية، يقول ابن
شبة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جعل موضع السوق في البقيع،
ثم نقله إلى موضعه الحالي، وجعل لا يؤخذ فيه خراج ولا عُشر»(1) (تاريخ
المدينة).
نظام الزكاة كأداة للتكافل والعدالة الاجتماعية
أوجب الله تعالى
الزكاة على المسلمين وجعلها مفتاح الدخول للجنة وزيادة الرزق، فالزكاة ليست هبة من
أحد للفقراء، وإنما هي فريضة على كل مسلم قادر، وذلك لما لها من آثار إيجابية على
الجميع، خاصة وأنها تنقي مال صاحبها، وتفتح له أبواب الجنة، يقول تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103).
وكان النبي صلى
الله عليه وسلم يجمع الزكاة من المسلمين جميعاً في الأمصار، ويوزعها على الفقراء والمحتاجين ومن أتى ذكرهم مفصلاً في كتاب الله، و«الزكاة لم تكن مجرد عبادة، بل
نظام مالي يعيد توزيع الثروة ويمنع تراكمها في أيدي فئة قليلة»(2).
الصدقات والوقف كوسائل إضافية للتكافل
وإلى جانب
الزكاة، شجع النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات والتطوع بها والوقف الخيري،
فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،
أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم) (البقرة: 254)، وقال سبحانه: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) (البقرة: 267)، وقال سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن: 16)؛ وهكذا
توسع مفهوم الإنفاق في المدينة ليشمل مؤسسات وقفية وخيرية ساهمت في تقوية البنية
الاجتماعية(3).
النتائج التي ترتبت على تنظيم المعاملات المالية بالمدينة
1- تحقيق
العدالة الاجتماعية عبر الزكاة والصدقات.
2- إلغاء الاستغلال
الاقتصادي الممثل في الربا والاحتكار.
3- حرية التجارة
مع الالتزام بالقيم الأخلاقية الإسلامية.
4- التعايش
الاقتصادي بين المسلمين وغيرهم تحت مظلة عدل الإسلام.
وبذلك، فقد
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يطبق نظاماً متوازناً بين حرية السوق والرقابة
الأخلاقية التي لا يعترف بها رأسماليو اليوم، توازناً بين الملكية الفردية
والعدالة الاجتماعية استطاع أن يحقق السعادة والأمان ليمثل أعظم مرجعية للنظم
الاقتصادية في العالم.
__________________
(1) تاريخ
المدينة لابن شبة، والطبقات الكبرى لابن سعد.
(2) صحيح
البخاري، كتاب الزكاة، السيرة النبوية لابن هشام.
(3) المغني لابن
قدامة.