مستقبل الحركة الإسلامية بعد حرب غزة.. مراجعة شاملة لدروس الصراع

د. مي سمير

07 أكتوبر 2025

59

تقترب حرب غزة الدامية من إتمام عامها الثاني، وسط مساعٍ دولية لإنهاء الحرب، وبغضّ النظر عن نجاح تلك المساعي من عدمه، تفرض هذه الحرب على كافة الأطراف في المنطقة إعادة تقييم فكرية ونظرية متعمقة وشاملة لدروسها المتعددة التي ستُغير وجه الإقليم بشكل مختلف عما كان عليه قبل نشوبها.

هذا التقييم الفكري لا أحد أجدر به أكثر من كوادر وقيادات التيار الإسلامي، الذي كانت بعض فصائله هي من تولّت إشعال فتيل الحراك منذ بدايته، بقيادة حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وغيرهما في السابع من أكتوبر، بالإضافة إلى ذلك، كانت الحركات الإسلامية المذهبية في صدارة الفاعلين السياسيين الذين هبّوا للتفاعل مع الحدث وتقديم الدعم العسكري والسياسي والإعلامي اللازم، كل هذه العوامل تستدعي التأمل الوافي لما دار على الساحة خلال العامين الماضيين، ومراجعة كافة السياسات والتحركات والتفاعلات التي قدّمها الإسلام السياسي بكافة أطيافه للوقوف على الأخطاء وقراءة المشهد قراءة واعية.

هذه القراءة الواعية تستدعي طرح التساؤلات الأكثر جرأة حول الكليات العامة التي تأسس عليها التيار الإسلامي، خاصة في ظل اقتراب مئوية الإخوان المسلمين، وإعادة فهم شاملة لمسار تطور الحركات الإسلامية في المجال السياسي وما آلت إليه في اللحظة الراهنة، هل حققت الأهداف التي عملت بجد من أجلها خلال قرن من الزمان؟ لا يوجد وقت أفضل لتلك المراجعة من هذه اللحظة الحرجة وشديدة العتمة التي تواجهها الأمة خلال محنة غزة.

الإسلاميون وتحدي تحرير «الأقصى» بعد حرب غزة

لطالما كانت الحركات الإسلامية منذ نشأتها حركات بأهداف تتعدى الحدود القومية، التي هي في الأساس صنيعة الاستعمار الغربي الحديث، فالأصل لدى الإسلاميين أن الأمة واحدة بغض النظر عن التقسيمات الجغرافية المستحدثة، وبذلك، كان للحركات الإسلامية إسهام في السياسات الإقليمية، وفي مقدمتها قضية فلسطين أو تحرير «الأقصى» طبقاً لأدبياتهم.

ولكن، بعد حرب غزة، يجب على هذه الحركات إعادة فتح ذلك الملف برؤية أكثر واقعية وجدية، عبر تقديم إسهام حقيقي لحلول مقترحة من جانبهم للكيفية التي يمكن أن يرونها لحل القضية أو تسويتها، سواء عبر اعتناق حل «الجهاد» بشكل حقيقي، أو حل «الدولتين»، أو ابتكار حلول أخرى، مع مراعاة أن يتسق ذلك الحل مع سياسات كل حركة في الواقع.

فالحركات الإسلامية السُّنية وعلى رأسها الإخوان المسلمون في مصر كانت قد رفعت شعارات مثل: «إلى الأقصى رايحين شهداء بالملايين»، بينما منذ نشوب حرب غزة، فإن الجماعة بأذرعها المترامية في المنطقة بأسرها لم تقدم ذلك الدعم المنتظر الذي توقعته «حماس» وأخواتها في غزة حين قرروا شن الهجوم ضد «إسرائيل»، معتقدين بأن ملايين الإسلاميين سيلبون النداء، وهو ما لم يحدث، هذا يستدعي مساءلة حقيقة مركزية قضية تحرير القدس في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وما مدى واقعيته، وتقديم كشف حساب حقيقي للدعم الذي قدّمه الإسلاميون للقضية الفلسطينية، هذه المراجعة ضرورية لفهم الأسباب التي دعت إلى ذلك الفشل، وتحديد الأسس الجديدة التي يمكن أن يتخذها الإسلاميون كقضايا مركزية تواكب العصر ولا تجعل الحركات الإسلامية خارج سياق الزمن ومنفصلة عن الواقع.

هذه المراجعة التي تعيد الإسلاميين إلى واقع الممارسة السياسية ومستجداته هي سبيل النجاة الوحيد لمستقبل الحركات الإسلامية، والخيار الأمثل لجذب الأجيال الجديدة التي تبحث عن قيم العدالة والحرية والديمقراطية والمساواة.

حرب غزة والتقارب المذهبي

إن الدعم الكبير الذي قدمته الحركات الإسلامية المذهبية للقضية على خلفية حرب غزة يُبرز مدى إمكانية استغلال تلك الفرصة التاريخية لإعادة بناء جسور التواصل والحوار بين المذاهب، خاصة في ظل عدم التمييز الغربي في القتل والتنكيل بين هؤلاء وهؤلاء، فالإسلاميون أياً كان انتماؤهم المذهبي هم خطر على «إسرائيل» والمصالح الغربية في المنطقة، تبرز القضية الفلسطينية كلبنة رئيسة أولى في هذا المجال، إذ يتفق الجانبان على رفض الاستيطان الصهيوني ويبتغيان التحرير والحل العادل للقضية الفلسطينية.

هذا التحدي يعد من أبرز المسائل التي تواجه الحركات الإسلامية في العالم العربي، فبناء على مدى النضج الذي قد يبديه الإسلاميون في هذا المضمار، يتضح إمكانية استعادة المكانة اللازمة لتلك الحركات في المستقبل.

الحركة الإسلامية بين الهزيمة والغنيمة

تشير المعطيات الحسابية المباشرة إلى هزيمة قد تبدو ثقيلة، ليس على حركة «حماس» وحدها، وإنما على التيار الإسلامي بصفة عامة، بعد الاستهداف الذي تعرّض له «حزب الله» وإيران و«الحوثيون» وكوادر حركة «حماس» في الخارج، وما تعرّض له الإخوان المسلمون من حظر وملاحقات أضعفت قدراتهم التنظيمية.

على الجانب الآخر، فإن ما قد يبدو هزيمة عسكرية يضمر في داخله مكاسب أخلاقية ومعنوية ضخمة يمكن للتيار الإسلامي اغتنامها لاستعادة نفوذه وشعبيته ولملمة شتاته، لقد استقطبت «حماس» بكفاحها وصمودها الطويل إعجاباً عالمياً وتعاطفاً دولياً من قطاعات شعبية عريضة باتت جميعها تقف مع القضية الفلسطينية وتؤمن بمطالب الشعب الفلسطيني العادلة، حيث انكشف بجلاء قبح آلة القتل والتدمير «الإسرائيلية» والدعم الغربي الساقط أخلاقياً لتلك الآلة.

ما كشفت عنه الحرب من وجه عنصري فاضح وغاشم من الدول الغربية (وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا) قد أعاد للمسلم العادي السؤال حول معركة الهوية، باتت الساحة اليوم مؤهلة أكثر من ذي قبل لفهم قضايا لطالما طرحها الإسلاميون حول علاقتنا بالغرب والعنصرية الغربية وصراع الثقافات، كل تلك القضايا تتطلب خطاباً جديداً من التيار الإسلامي يعيد فهم العلاقة مع الغرب بشكل أكثر توازناً، بعيداً عن الشعارات، لتوجيه خطاب واعٍ وموضوعي بالأدلة والبراهين على فداحة السياسات الغربية، مع أهمية التمييز بين الحكومات الغربية والشعوب.

من هنا، فإن سلسلة الهزائم التي يتعرض لها الإسلاميون لا ينبغي أن تكون إعلان استسلام أو ذريعة للاعتقاد بأفول عصر الحركة الإسلامية، بل هي محطة مهمة للمراجعة الذاتية وإعادة قراءة المشهد بتأنٍّ وموضوعية بعيداً عن عقلية الضحية، لتحويل الهزيمة إلى غنيمة والانكسار إلى بعث جديد.

فهل تستطيع الحركات الإسلامية أن تولد من جديد بفكر واقعي يعيد إليها دورها الحضاري؟

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة