محاربة العُروبة.. مدخل الغرب لهدم أمة الإسلام (2 - 2)

تحدثنا في الجزء الأول عن الدوافع التي تقف خلف الحرب الشعواء التي يشنها الغرب على العروبة، ثم تناولنا بعض إستراتيجياته ووسائله في هذه الحرب، ونستأنف هنا من حيث توقفنا، مستكملين رصدنا لهذه الإستراتيجيات، ثم ننتقل إلى ما يليها.

ب‌- مرحلة التفتيت عضوياً ومعنوياً:

بعد أن أتمّ الغرب المرحلة الأولى من عملية تمزيق العالم العربي، وهي مرحلة التقسيم بمساريها، المسار العضوي ومسار الانتماء والهوية، وحوّل المنطقة العربية بالفعل إلى كيانات منفردة أو دول متعددة (مستقلة) بهُويّات مختلفة ومتعددة.

وبعد أن اطمأن دهاقنته تماماً إلى ثبات هذا الوضع على خرائط الجغرافيا، بالتوازي مع ترسُّخ قسماته في الخرائط الذهنية والوجدانية للشعوب العربية، ثباتاً وترسخاً كان من أكبر شواهدهما اندلاع صراعات حدودية ثنائية، ملتهبة أحياناً، بين عدد من البلدان العربية بعضها بعضاً، وانتشار مظاهر الاعتزاز بين أبناء كل واحد من شعوبنا بجذورهم السحيقة في عصور ما قبل الإسلام.

بعد أن أنجز الغرب هذا كله بنجاح واضح، دشّن المرحلة الثانية من مخطط تمزيق العالم العربي، ألا وهي مرحلة «التفتيت»؛ أي تقسيم المقسّم، بمعنى تقسيم كل واحدة من هذه الدول المنفردة ذاتها إلى دويلتين أو أكثر، لكل واحدة منها هويتها الخاصة، ولم تزل وقائع هذه المرحلة جارية أمام أعيننا.

فقد فصلوا جنوب السودان عن شماله، وتجري اليوم حرب شرسة في شماله تستهدف تفتيته إلى دويلتين أو ثلاث، وقُسّم اليمن، ومنذ احتلال العراق وتدميره يجري الحديث عن تفتيته إلى ثلاث دويلات، ونشهد جميعاً محاولاتهم الخبيثة لتفتيت سورية.

وفي بلاد المغرب العربي، لا يكف الأمازيغ عن المطالبة بالانسلاخ، والحبل على الجرّار، حيث تشمل خطط التفتيت جميع بلدان العرب؛ وتعتمد الإمبريالية الغربية في عمليات التفتيت هذه بشكل رئيس على التنوعات الإثنية، والدينية، والطائفية، حيث يعملون من خلال ذيولهم في الداخل على تغذية التباينات داخل كل بلد، بما يسمح به واقعه وتتيحه تركيبته وطبيعة مكوّناته، ثم يتدخل ما يسمى بالمجتمع الدولي ليفرض تفتيت البلد تحت دعاوى معلّبة خبيثة، بالتوازي مع الضغط الشديد، عبر سياسة الجزرة والعصا، ثم يقع الانسلاخ.

ومن الواضح أن الغرب، وذيوله، لم يعد لديهم صبر لمثل هذه السيناريوهات التي تحتاج إلى وقت طويل حتى تنضج على نار هادئة ودون ضجيج كبير وبشكل يُخفي بصماتهم المباشرة على مسرح الجريمة، على نحو ما حدث في عملية فصل جنوب السودان عن شماله، التي عملوا على تهيئة المسرح لوقوعها على مدار أكثر من مائة عام.

لهذا، انتهجوا سياسة الحرب الأهلية؛ لإحداث الانفصال في وقت وجيز بواسطة وكلائهم المحليين، وعن طريق القتل والاغتصابات والتعذيب والتدمير، وللسودان خصوصية شديدة في هذا الإطار، إذ طُبّق السيناريو الأول لفصل جنوبه أولاً، وتجري حالياً بشاعات السيناريو الثاني لتفتيت شماله.

المحزن أنه في جميع الحالات يضطلع مجرمون من أبناء البلد ذاته بوضع مخططات الانفصال موضع التنفيذ على أرض الواقع، حتى وإن استهدفت الحرب الانفصالية تحقيق أطماع فقط دون أن يكون لها أي أساس عرقي أو طائفي، وحتى لو تتطلب الأمر القضاء على ملايين الضحايا الأبرياء، بل وتدمير البلد بأكمله!

ثالثاً: تهافت رافضي العروبة وتُرّهاتهم:

من أعاجيب العرب الرافضين للعروبة، دعوتهم لإحياء اللغات التاريخية لبلادهم، لكي تحل محل العربية، من باب استعادة الهوية القديمة والاعتزاز بها، وفي الوقت ذاته يحرص غالبيتهم على أن يحصل أولادهم على تعليم أجنبي بلغات أوروبية، تحت زعم أن العربية لغة ضعيفة لا يمكنها مجاراة التطور الدائم، وكأن سعيهم خلف اللغات الأجنبية وتباهيهم بإجادتها لا يخدش رغبتهم في العودة إلى هويتهم القديمة، فقط اللسان العربي هو الذي يفعل!

وكأن لغاتهم القديمة التي شبعت موتاً، بل ومضى على موت بعضها آلاف السنين، سوف تكون أقدر بعد إحيائها على مجاراة الحضارة الإنسانية، من العربية التي ظلّت لسان العلم والناطقة باسمه حصراً على مستوى المعمورة لقرون طويلة، التي لم يزل لها دورها ومكانتها حتى اليوم، مع تغير الحال.

والأعجب من هذا زعمهم بأن انتماءهم للعروبة يعيق تقدم بلادهم، ولنا أن نتساءل: هل حاولتم الانطلاق في آفاق الحضارة الإنسانية فكبّلت العروبة أقدامكم؟ كيف؟ هل امتلكتم أسباب التقدم كلها وبقيت العروبة عائقاً وحيداً يعترض سبيلكم؟

أين أسباب التقدم التي امتلكتموها هذه؟ ثم كيف كانت أحوال أقطاركم وشعوبكم قبل أن تنضووا تحت لواء العروبة؟ هل كنتم في عزة وسؤدد ومجد وتقدم؟ أليست هذه هي العروبة التي انطلق أبناؤها -تحت راية الإسلام ولوائه أولاً وليس بالعروبة في حد ذاتها فقط- ليحرروا بلادكم وشعوبكم من نير الاحتلال وذله وقهره وجبروته، حاملين إليكم نور الإسلام؟ أوَكلما ألمّت بالمرء ضائقة انسلخ من جلده، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!

أما ثالثة الأثافي فهي محاولات بعضهم اختراع أو تلفيق هُوية من لا شيء ليصرع بها العربية، مثل حديث أحدهم عما أسماه «ثقافة البحر الأبيض المتوسط».

إستراتيجية الغزو الفكري والنفسي من الخارج.. «التغريب»

بالإضافة إلى إستراتيجيات الحرب على العروبة من داخل قلاعها، ثمة إستراتيجية أخرى خارجية ينتهجها الغرب، ألا وهي إستراتيجية التغريب؛ أي غزو الغرب لعقول أبناء العروبة ونفوسهم.

وهو أخطر من الغزو العسكري بمراحل، لأنه يستهدف العقل الجمعي لأبناء الأمة ووجدانهم، عبر إغوائهم المستمر بأنماط الغرب الأخّاذة في الفكر والمعيشة والسلوك، استناداً إلى التفوق الحضاري الهائل للغرب، بالتوازي مع حالة الضعف الشديدة التي وصل إليها أبناء العروبة -ضمن الإطار العام لأمة الإسلام- وأفقدتهم الثقة في قدراتهم وذاتهم الحضارية.

وقد نجح الغرب في هذا المضمار إلى حد بعيد، فسقط أغلب أبناء مجتمعاتنا، بكل حسرة وأسى، في هوة الانهزام الروحي والانسحاق النفسي، نتيجة لضعف تحصينهم الفكري وتداعي مناعتهم الدينية والنفسية عموماً، أمام طوفان النموذج الغربي الجارف البرّاق، ونتيجة كذلك لعوامل أخرى قوية حاكمة ومريبة، وضرَب التغريبُ جذورَه في أفئدتهم قبل عقولهم، وانتشرت مظاهره في مختلف ميادين حياتهم بشكل فجّ ومرعب.

بصمات الماسونية-الصهيونية واضحة في هذه الحرب الخبيثة المستعرة، وفي المجمل يقول لسان حالهم: من لم يخرج من عباءة العروبة اسماً ورسماً بفعل مشرط التمزيق بكلا مساريه، ينسلخ منها روحاً ووجداناً بضربات معول التغريب، والأدهى أن الغالبية قد أسلموا أنفسهم وبلادهم لهذا وذاك في آن واحد!

يقيننا أن العروبة باقية، لأنها مرتبطة بالإسلام ارتباطاً عضوياً، والإسلام باقٍ إلى أبد الآبدين، بقدَر الله وحوله وقوته. 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة