في الذكرى التاسعة لاستشهاد الزواري.. الوجه الآخر لمهندس «الأبابيل»

عادل العوفي

17 ديسمبر 2025

72


 

لا يمكن استحضار يوم 15 ديسمبر دون تذكر الذكرى الأليمة لاغتيال أحد العقول العربية المشهود لها بالنبوغ والكفاءة؛ إنه الشهيد محمد الزواري، ابن تونس الخضراء، الذي ضحى بحياته ووقته وجهده من أجل القضية المركزية الأولى لكل مسلم وعربي وحر وشريف في كل بقاع العالم.

اللافت في سيرة ابن صفاقس أنها ما زالت زاخرة بالمستجدات ولم تبح بكل أسرارها بعد، رغم أننا اليوم نعيش على وقع الذكرى التاسعة لارتقائه (15 ديسمبر 2016م) شهيداً قرب منزله في عملية محكمة نفذها «الموساد» الصهيوني على الأراضي التونسية دون حسيب ولا رقيب، بل حتى في ذروة مطالبة الشعب التونسي برمته في مظاهرات مليونية حينها بالكشف عن حيثيات القضية ووضع النقاط على الحروف دون مواربة؛ ظلت السلطات الرسمية تراوح مكانها لدرجة وجود محاولات لثني أرملة الشهيد عن الاستمرار بالمطالبة بفتح الملف واستمرار التحقيقات حتى إثبات الحقيقة الكاملة.

رجل الظل

من مميزات شخصية المهندس «القسامي» محمد الزواري اللافتة للانتباه إصراره على العيش في الظل بعيداً عن الأضواء والتزام الصمت المطبق والهدوء التام؛ وذلك ما كشفته لنا زوجته في حوار صحفي تشرفت بإجرائه معها في فترة سابقة، وتحديداً بعد استشهاده بعام تقريباً، حيث سردت قصة زواجهما وأيضاً الحكاية العجيبة للأسماء المستعارة التي يحملها الشهيد.

تقول زوجته: تزوجنا أنا ومحمد عام 1997م في سورية، والسبب في تعارفنا كان بعض أقاربي الذين جاؤوا معه، وسبحان الله في اليوم نفسه الذي التقينا فيه تم كل شيء بسرعة، حيث قرأنا «الفاتحة» مساء السبت، وصباح الأحد عقدنا قراننا.

وتضيف: لكن للتوضيح، حينها كان للشهيد اسم آخر هو الأسعد صالح شيبوب؛ بعد أسبوع من فترة الخطوبة حددنا السبت المقبل موعداً للزواج، وفي تلك الفترة تعرفت إلى محمد، الطيب والحنون والرائع، وبعد أسبوع من الزواج غادرنا سورية باتجاه السودان؛ وأثناء إقامتنا هناك تعرفت إلى أناس تونسيين وجزائريين ومن مختلف الجنسيات كانوا على تواصل مع محمد.

وأردفت زوجته: وفي العامين الأولين لزواجنا، تعرّض محمد لأزمة صحية حادة، حتى إن الطبيب صارحنا بخطورة وضعه، وفي تلك الأثناء أخبرني أنّ اسمه الحقيقي هو محمد الزواري؛ ورغم أنني لم أكتشف الحقيقة إلا بعد مرور كل تلك المدة، فإنني لم أغضب منه وقلت له: ما يهمني أن تشفى وتعود لي سالماً.

وتقول: وبعد أن تجاوز محنة المرض روى قصته في الهروب من تونس أثناء نظام بن علي الذي كان يطارده؛ لذلك اضطر لتغيير الاسم؛ ومنذ عام 1997 حتى عام 2002م لم أرَ أهلي في سورية رغم إصرار محمد على ذهابي لرؤيتهم، لكنني رفضت أن أتركه وحيداً، ولأنني متعلقة جداً به لدرجة لا توصف.

وتسرد زوجة الزواري: وفي تلك السنة زارتني أمي وأبي رحمه الله، وهي ذات الفترة التي نال فيها محمد الجنسية السودانية باهتمام خاص من الرئيس السابق عمر البشير؛ ووجب التذكير أنه بعد سفرنا للسودان الكل هناك يعرف محمداً باسم «مراد»، رغم أنّه يحمل اسماً آخر بالوثائق هو الأسعد صالح شيبوب، كما ذكرت في البداية، ومنذ تلك الفترة تعودت على مناداته بـ«مراد» حتى رحيله.

وتؤكد أنه في عام 2006م تركنا السودان رسمياً وعدنا إلى سورية رغم الإصرار على بقائه هناك، حيث أسسّ «مدجنة» وضع فيها كل رأسماله، لكنه لم يوفّق في المشروع، وعشنا وضعاً مادياً صعباً، وفي عام 2007م بدأ محمد يسافر كثيراً ويقول لي: إنّ سفره يتعلق بحضور مَعَارض وأمور متعلقة بالهندسة، وأنا صدّقته ولم أحاول التدقيق في الموضوع.

الانتماء لـ«القسام»

حين نعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيد محمد الزواري بعد انتشار خبر اغتياله، وأعلنت أنه ينتمي لـ«كتائب عز الدين القسام»، تغيرت نبرة تعاطي الجميع مع الواقعة، وبدأت وسائل الإعلام في البحث والنبش عن حقيقة هذا الرجل التونسي الذي لا تتوفر عنه سوى معلومات ضئيلة، أبرزها أنه يشرف على مدرسة للطيران في مسقط رأسه بصفاقس، وكان شاباً ذا نشاط سياسي محدود في فترة نظام زين العابدين بن علي.

لكن المعطيات سرعان ما تناسلت لا سيما من لدن الإعلام العبري الذي لم يكتف بتقارير وأخبار عن بُعد، بل أرسلت «القناة الثانية الإسرائيلية» لعين المكان مراسلاً كي ينجز عملاً وثائقياً عن الشهيد؛ لتتحرك بعدها المحطات العربية، وكان أبرز ما نفذ حينها حلقة برنامج «ما خفي أعظم» للزميل تامر المسحال التي حملت صوراً ومقاطع فيديو حصرية توثق لتجارب المهندس التونسي على أرض غزة حين زارها سراً وأشرف على إعداد الطائرات بدون طيار التي كانت تحمل اسم «أبابيل» قبل أن تطلق عليها المقاومة لاحقاً اسمه من باب التخليد والتكريم لجهوده في تطويرها، حيث ظهرت لأول مرة في معركة «العصف المأكول» عام 2014م.

لكن المفاجأة أن السيدة ماجدة صالح نفسها لم تكن على دراية بعلاقة زوجها بالمقاومة الفلسطينية، حيث صرحت لنا بعد استشهاد الزواري قائلة: كنت منهارة للغاية، لكن حين وصلني خبر انتمائه لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) شعرت بفرحة عارمة، وأنّ زوجي ضحّى بحياته من أجل فلسطين، وهذا شرف كبير لا يعادله أيّ شرف؛ لتكشف أن المقاومة عرضت عليها حينها القدوم لغزة والاستقرار هناك، لكنها اعتذرت وفضلت البقاء في تونس وفاء لزوجها رغم الصعوبات الجمة التي تعرضت لها لاحقاً وبالأخص في ملف نيل الجنسية التونسية الذي تأخر لسنوات.

وحول اطلاعها على المشاريع التي يعمل عليها الراحل وتحديداً بعد طائرة «الأبابيل» قالت: الشهيد كان شخصاً كتوماً فعلاً؛ لذلك لم أعرف أين بالضبط بدأ مشروع الطائرات، ما أعرفه أنّه عند وصولنا إلى تونس أخبرني بتأسيس «نادي الطيران»، مؤكداً أنّه سيكمل مساره الدراسي (نال شهادة الدكتوراة بعد أن توقّف عن الدراسة لفترة 22 سنة)، بالإضافة إلى تعليم الشباب.

وأوضحت: لكنني علمت متأخرة عن مشروع الغواصات المسيرة أنها للمقاومة وللتصدي للعدو، وهذا مصدر فخر عظيم، كما أنني أتذكر جيداً أنّ محمداً أخبرني مرة أنه بعد الانتهاء من مشروع الغواصات سيستهل مرحلة جديدة وسينكبّ على عمل جديد سيبهر العالم بأسره، وكانت تلك المرة الوحيدة التي يكشف لي فيها عمّا يدور في مخيّلته حتى أنني ظننته يُمازحني.

وعن طبيعة المشروع قالت: للأمانة، لم يذكر لي تفاصيل أخرى سوى ما ذكرته، وكان الأمر قبل سنتين ونصف سنة تقريباً من استشهاده، حتى إنه بعد أن وجدني مهتمة بمعرفة المزيد قال لي: إنها فعلاً مجرّد مزحة فقط.

وعن سؤالها حول شعوره بوجود شيء مريب قبل اغتياله بأيام، وهل تلقى تهديدات مثلاً؟ أجابت: قبل استشهاده بثلاثة أيام وتحديداً بعد عودته من لبنان كنت أشعر به وكأنه منزعج، وحاولت معرفة سبب قلقه، لكنه رفض الإفصاح، وطوال ذلك اليوم كان يطلّ من الشرفة، رغم أنّ الجو كان بارداً جداً في تلك الفترة.

دروس من رحلة ابن صفاقس

مرت 9 سنوات على استهداف هذا العبقري الذي سخَّر علمه وموهبته لخدمة قضايا أمته متوارياً عن الأنظار، مدركاً البوصلة الحقيقية دون الحاجة للأضواء؛ لكن السؤال المطروح: لماذا لا نرى عبر وسائل الإعلام وحتى المناهج الدراسية هذه النماذج الملهمة والمهمة للأجيال الجديدة؟ ولماذا تحاط بالسرية ويكتنفها الإهمال مقابل التركيز على التافهين والشخصيات السخيفة؟

رحلة الزواري مكتنزة بالدروس والعبر؛ لذلك هناك من يعمل جاهداً لطمسها مع العلم أن الكيان الصهيوني أدرك حجم تأثيرها؛ لذلك لم يتوان في الغدر بها كما تعود أن يفعل مع كوكبة من العقول العربية المسلمة النيرة التي اصطفت في خندق الحق، وسعت للذود عن شرف أوطانها وعرضها؛ فلماذا لا نساعد في الحديث عنهم والتعريف بهم كما يستحقون؟

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة