فقه الأولويات.. 10 مفاهيم لترتيب الواجبات اليومية بين الدين والحياة

في زمن كثرت فيه المهام اليومية على كل إنسان فأصبح من الصعب أن يؤدي جميع الحقوق دفعة واحدة، إذ يضطر لتأدية عباداته بصورة سريعة غير متقنة، ثم ينتقل لعمله، ثم حقوق العباد عليه، ثم الواجبات اليومية التي يضطر لتأديتها لينتقل من المهام الدينية للاجتماعية للاقتصادية للمهنية، فينتهي به اليوم منهكاً غير قادر على الحركة، وربما لم يتمم ما عليه من واجبات بعد.

هنا يعن له سؤال محوري: ما الذي ينبغي تقديمه من عمل؟ وما الذي يمكن تأخيره حتى لا يغضب ربه؟

ومن هنا ندرك أن ترتيب الأولويات اليومية ليست مجرد عملية ترتيب للوقت وتنظيم له، وليست عملية رفاهية يفعلها من يريد، ويتجاوز عنها من يريد، وإنما تصبح ترتيب الأولويات مهارة فقهية وأخلاقية وضرورة دينية للحفاظ على المصلحة الفردية والمجتمعية وتحقيق التوازن بين الواجبات الدينية والأمور الحياتية.

أولاً: تعريف فقه الأولويات ومصدره المقاصدي:

يعرف فقه الأولويات بأنه: «وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدَّم الأولى فالأولى بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي وسلامة العقل، فلا يقدم غير المهمِّ على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، بل يقدَّم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير ولا يصغر الكبير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم»(1).

وهو علم شرعي نابع من مصادر التشريع الإسلامية، قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة: 19)، ويفاضل الله تعالى بين بين الكافر والعابد لربه، وبين العالم والجاهل، فيقول: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9).

وفي المفاضلة بين درهم في سبيل الله، وألف درهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: وكيف؟ قال: «كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها» (أخرجه النسائي في سننه).

ثانياً: قواعد أصولية محورية في فقه الأولويات:

من أهم قواعد أصول الفقه التي يتم تفسير آلية فقه الأولويات عليها، هي:

1- قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

2- ترجيح المصلحة الكبرى على المصلحة الكبرى.

3- التدرج في التكاليف الشرعية.

4- قاعدة درء المفاسد تستخدم في موازنة الخيارات عند تكافؤ المصالح أو تعارضها.

ثالثاً: مقاصد الشريعة وتدرج الضرورة.. إطار عملي للقرار اليومي(2):

وتحدد المقاصد العامة للشريعة وفق تقسيم الشاطبي إلى درجات:

1- الضرورات: التي لا يقوم الدين ولا الدنيا إلا بها مثل الصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام.

2- الحاجيات: ما يسهل العيش ويزيل كرباً مثل العمل والبحث على الرزق.

3- التحسينيات: التزيينات التي تكمل السلوك إن وُجدت.

فعملياً، يبدأ اتخاذ قرار الأولوية بالجواب عن سؤال محوري: هل هذا العمل ضروري لحفظ النفس أو المال أو الدين؟ فكلما اعتمدت تلك الأشياء على هذا العمل، فله إذن الأولوية المطلقة في قائمة الأعمال اليومية، وإن لم يكن كذلك فيأخذ مرتبة أقل في الأهمية والأولوية وبحسب الوقت كذلك.

رابعاً: ترتيب الأولويات في العبادة والمعاملات:

أ- العبادة: مع أن العبادات الفردية لها مكانتها الخاصة، فإن الشريعة قد تقدم فعلاً يتعلق بأمور الحياة الدنيا، على نفس شرعي إذا كان في الأمر إقامة مصلحة للدين أو مصلحة عامة، فعلى سبيل المثال إذا اجتمعت صلاة النفل في المسجد مع خلاف بين المسلمين أو وقعت مظلمة، فعلى المسلم أن يدرك الخلاف أولاً ليصلحه، أو يطفئ حريقاً مثلاً، أو يميط الأذى عن الناس بأي صورة من الصور، فهنا يقدم العمل الحياتي على النفل الشرعي.

ب- المعاملات اليومية: في معاملات البيع والشراء والعهود، تقدم مصالح الآخرين وإزالة الظلم عنهم، على تحقيق مصلحة شخصية ترغبها النفس.

خامساً: الأولويات الأسرية والاجتماعية والعلوم الدنيوية:

والإخلال بالأسرة وواجباتها تجاه أفرادها ينتج خللاً وأمراضاً اجتماعية خطيرة، ولذلك فيجب إعطاء أولوية يومية للحفاظ على الروابط الأسرية والمهام الخاصة بها، وذلك مثل: صلة الرحم، ورعاية الوالدين، وتربية الأولاد، وحسن تبعل الزوج، ومراعاة احتياجات الزوجة.

وكذلك في العمل العام، تعطى الأولوية لأعمال تخدم أكبر عدد من الناس، مثل توفير الدواء، والغذاء، ولا تترك تلك الاحتياجات لتكون في قبضة العدو مثلاً، كذلك مشاريع التعليم تقدم على مشاريع الرفاهية.

سادساً: الأولويات الاقتصادية:

وسد حاجات الأسرة والالتزامات المالية وسداد الديون أولويات يضعها الإسلام قبل الإنفاق على أمور فرعية أو ترفيهية، مثل التنزه على سبيل المثال، أو التبرعات الاختيارية، أو الكماليات، فالإنفاق على الحاجة الأساسية يأتي في مرتبة قبل الادخار، فالفائض والزيادة عن الحاجة من الأفضل توجيهه إلى الوقاية من الأخطار (الادخار للطوارئ) أو دعم مستحقين (صدقات للضروريات)، هذا الترتيب لا يلغي أهمية الصدقة، لكنه يضعها في مقامها المناسب ضمن هيكل الأولويات.

سابعاً: الأولويات في أوقات الأزمات والطوارئ(3):

وتمر الأمم بفترات استثنائية ليست موجودة على الدوام، مثل الحروب، والأوبئة، والكوارث الطبيعية، وفي تلك الفترات يجب أن تكون الأولوية لإنقاذ حياة الناس وأرواحهم، فالإنفاق فيها على الطعام أو الدواء يكون مقدماً على الاهتمام بالمشاريع التكنولوجية أو ما يشابهها.

ثامناً: منهج عملي لاتّخاذ القرار اليومي.. مقترح خماسي الخطوات:

يمكن أن نقدم نموذجاً عملياً كمنهج لاختيار العمل الأوجب في كل وقت من أوقات اليوم:

1- تحديد أهمية العمل وفق درجاته، هل هو ضرورة الوقت؟ هل هو حاجة؟ أم أنه مجرد فضيلة يمكن تأجيلها لإجراء ما هو أكثر أهمية؟

2- يصنف العمل بتقييم المصلحة والمفسدة من القيام به، فإن كان ثمة مفسدة تترتب عليه بالرغم من وجود مصلحة محتملة، فيتم إلغاؤه.

3- وجود أدلة شرعية تحث على العمل وتحبذه، فإذا تواجدت النصوص الشرعية التي تفضله على عمل آخر، فلتكن الأولوية له.

4- تقييم العمل حسب تأثيراته المستقبلية سواء كانت على المدى القريب أو البعيد.

تاسعاً: أمثلة تطبيقية سريعة:

قد يقف المرء حائراً بين عملين كلاهما عمل خير، فاختيار الأولوية هنا يتوقف على الوقت وما يترتب على الإقدام على الفعل أو تأجيله، ومن أمثلة ذلك:

  • المفاضلة بين إسعاف مريض وصلاة النافلة، فحفظ النفس ضرورة شرعية.
  • حضور اجتماع عمل مهم، أو رعاية أُم مريضة، فرعاية الأمم مقدم على العمل ولو وقعت منه مفسدة مادية.
  • سداد الدين، أم الإنفاق على كماليات الأسرة، فسد الدين أولى لأن ضرره أعلى.

عاشراً: ضوابط للاجتهاد الشخصي:

لا بد من ضوابط عند تطبيق فقه الأولويات حتى لا يتحول إلى ذريعة لتبرير الإهمال أو الأنانية:

أولاً: يجب أن يكون التمييز قائماً على مصلحة واضحة لا على مجرد تفضيل شخصي.

ثانياً: تجنب الاستبداد بالقرار دون مشورة أهل الاختصاص أو ذوي الشأن.

ثالثاً: مراعاة أن الأولوية ليست دائمة في كثير من الحالات بل ظرفية وقابلة للمراجعة.




___________________

(1) فقه الأولويات السياسية والاقتصادية، د. نهاد إسحاق (1/ 37).

(2) مقتطف من جريدة الشرق الأوسط الصادرة بتاريخ يوم الثلاثـاء 19 ربيـع الأول 1432هـ/ 22 فبراير 2011م، العدد (11774) الإمام الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة (مباحث ومقاصد الشريعة).

(3) يوسف القرضاوي، في فقه الأولويات (دراسة تطبيقية حول ترتيب الأولويات في الشريعة)، بتصرف.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة