عبقرية النبي ﷺ.. كيف بنى الإنسان قبل بنيان الحضارة؟

لا تبنى الحضارات الكبرى على الحجارة والطين وارتفاع الأبنية وكثرة المنتجات المادية، إنما تبنى على الإنسان أولاً، والتاريخ يثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت للعالم كداعية يصحح معتقدات الناس في وحدانية الله عز وجل فقط، وإنما أتى كصانع لحضارة إنسانية سماوية تغير وجه التاريخ ومساره، امتد نور تلك الحضارة من عمق الصحراء حيث مكة والمدينة، إلى أقاصي الأرض.

ولم تبدأ تلك الحضارة فجأة، وإنما سارت مساراً مدروساً بدأ بالفرد ثم المجتمع فالدولة فالخلافة مترامية الأطراف من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، صارت أمة حملت رسالة الإسلام للعالمين، فكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ من قلب الفرد، ليصل إلى قلب الأمة؟

الفرد كنواة أولى للحضارة الإسلامية

قام النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد الفرد المسلم على عدة محاور تربوية تستند إلى عملية إخلاء وتعديل، بنزع صفات الجاهلية من النفس، ثم غرس مجموعة القيم الإسلامية المختلفة، وهي: محور عقيدي ثابت، ومحور أخلاقي، وبناء جيل قرآني فريد.

1- بناء المحور العقيدي:

في الإسلام لا يوجد بناء سليم، إلا بعقيدة صحيحة، ولذلك فقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يبني عقيدة الرعيل الأول من المسلمين لمدة 13 عاماً في مكة دون أن يكون هناك دعوة للجهاد، أو تكاليف شرعية تذكر، حتى يتم تثبيت العقيدة في صدور المسلمين، يقول تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) (الزمر)، وفي أهمية العقيدة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله» (رواه البخاري).

وفي الوفود التي أرسلها عليه الصلاة والسلام، وفي توصيته لصحابته الذين أرسلهم للدعوة في القبائل والبوادي أمرهم أن يبدؤوا بالتوحيد قبل كل شيء، ففي وصيته لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن وقال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» (رواه البخاري).

وحياة النبي صلى الله عليه وسلم تزخر بالمواقف التي تؤكد أهمية العقيدة، ففي فتح مكة كان حول الكعبة 360 صنماً، فشرع يحطمها وهو يردد قول الله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء: 81)، ثم نادى في أهل مكة قائلاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره».

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الأطفال تربية عقيدية يقول ابن القيم: «فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم أينما كانوا، وسر التأذين والله أعلم: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها»(1).

2- بناء المحور الأخلاقي:

جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأخلاق هي غاية الدعوة فقال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (المستدرك)، وقد كان منهج التغيير الأخلاقي الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم منهجا ًمتكاملاً، فقد جعل الإيمان أساس الأخلاق، فالكرم على سبيل المثال من مكارم الأخلاق، ومع ذلك هو بغير قيمة إن لم يكن أساسه الإيمان الصادق؛ (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة: 19).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا» (واه أبو داود)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن»، قيل: ومَنْ يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» (رواه البخاري، ومسلم)، وفي المقابل ربط الإسلام سوء الخلق بالكفر، يقول تعالى: عن الكافرين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المدثر).

3- إعداد جيل متعلق بكتاب الله:

لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أحكام الدين للمسلمين الجدد، بل حرص على صناعة جيل قرآني متعلق بكتاب الله، ويعيش الآيات الكريمة واقعاً وخلقاً، لتكون المرجعية كتاب الله، بعيداً عن تأثيرات الجاهلية وبقاياها.

يقول سيد قطب: «لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس (الصحابة)؛ جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى.. نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم، في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة»(2).

ويجب علينا اليوم إن أردنا أن نغير الواقع الذي تعيشه الأمة، أن تبحث في سر تكوين هذا الجيل الذي صنع تلك الحضارة العظيمة وبدل أمة البادية لأمة متحضرة.

تلك هي أهم أسس تكوين النبي صلى الله عليه وسلم للفرد المسلم الذي استطاع صنع المعجزة الحضارية التي ما زالت تحمل مقومات بقائها واستمرارها وتجددها.




________________

(1) تحفة المولود لابن القيم.

(2) معالم في الطريق لسيد قطب.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة