شريك بن عبدالله وأسرار العظمة في حياة القضاة

شريك بن عبد الله، قاض من القضاة جليل، وما أكثرهم فى تاريخ أمتنا المجيد، هو زاهد، هو عالم، ذو عفة وإباء، أكرهه الخليفة المنصور على قضاء الكوفة، فقبل، وعلى مضض كان منه القبول، وليس يصح فى الأذهان عن زاهد عالم مثله، إلا القضاء بالقسط والعدل المكين، قضى بين الناس بما أفاء الله عليه، وقد أفاء عليه بالعدل وتحري الصدق، والمأثور عنه خير دليل.

 أشكو إليك الأمير!

 ‏جاءته ذات يوم امرأة ترفع إليه شكايتها، ومع الشكاية وكَفَتْ دمعتها، ترجو النصفة من الله ثم منه، فاستنطقها باسم الذى تشكوه، غالبت عبراتها وقالت إنه السلطان، عيسى بن موسى، أمير البلاد، وابن عم المهدي، خليفة المسلمين، وكان لو أصابته هيبة مما سمع لعز اللائمون عليه، فالجاني عزيز الجانب منيع الحصانة، لكن القاضي كان فوق أن يَهاب، وفوق أن يُحابي.

وما شكايتك يا أمة الله؟

فساءلها عما جناه، أجابته: قد ورثت وإخوتي بستانًا عن الآباء والأجداد، ابتاع الأمير من إخوتي نصيبهم، وأغراني أن أبيع نصيبي فأبيت عليه، وجعلت حائطًا بين بستاني وبساتينه التي اشترى، وأوكلت فارسيًّا يقوم على حراسته، وبالأمس أرسل خمسمائة غلام من غلمانه فعدَوْا على بستاني وانتهبوه وعمدوا إلى الحائط فهدموه، وذهبوا لبيت الفارسي فنقضوه..

فليحضر الأمير فورًا

 سمعها شريك حتى انتهت من شكايتها وأمرها أن تنصرف على موعدة منه بالحق والإنصاف، فانصرفت، ولم يمهل ولا أطال الانتظار، فأرسل كتابه إلى عيسى بن موسى يعلمه بشكاية المرأة فى حقه، ويأمره أن يحضر لمجلس القضاء! فماذا فعل الأمير؟

لما أتى مكتوبه إلى الأمير ثارت ثائرته فأرغى وأزبد وراح يهرف بالاستنكار لصنيع شريك قائلًا: أصغيت السمع لشكاية حمقاء من الحريم لا تقوم على دعواها حجة، وأرسلت إليّ أن أجالسها فى مجلس قضاء واحد ! ودفع بِرَدِّهِ مكتوبًا لكبير شرطته ليذهب به ويعطيه له، امتقع وجه الشرطي وراح يستدر عطف الأمير أن يعفيه، لكنه لم يقبل له عذرًا، هنالك دفع كبير الشرطة بغلمانه ليذهبوا بطعام وشراب وغطاء إلى السجن، وانكفأ من ساعته إلى شريك وألقى إليه بكتاب الأمير، وطالع القاضي ما كتب، وما إن فرغ منه إلا وأمر غلامَ السجن أن يأخذ بيد حامل الكتاب إلى محبسه، فقال قد علمت ما سيكون فجئت بما أعوزه قبل أن آتيك ودخل صاغرًا.

نما الذى كان إلى علم عيسى بن موسى فربا الحنق لديه، وبث شكواه إلى بعض المقربين منه من عِليةِ القوم الذين درجوا على التملق لكل ذي سلطان، فأرادوا التزلف وتطوعوا للوساطة عند القاضي، حتى إذا ما أتوه، وألقوا القول بين يديه، مستشفعين للأمير، إلا وثار وغضب، ولم يمهلهم قليلا، وبهم أمر أن يجاوروا كبير شرطة الأمير فى محبسه.

هنالك استشاط عيسى غضبًا، وعجِلا اصطحب جنوده وتوجه بهم تلقاء حبس القضاء واقتحمه وأخرج من كان فيه، وفى صبيحة الغد أتى القاضي لدار القضاء وعاين ما كان، وعنه سأل الغلام، فأخبره بالذي جرى، فقال أكرهونا عليها وما كانت بنا رغبة فيها فلنكن أحرارًا أو ليعفونا منها، وأمر الغلامَ ليعد الراحلة ووضع عليها متاعه واصطحب أهله وتوجه قاصدًا بغداد.

عفوًا أيها القاضي

 علم الأمير بشأنه، وتخوف من عاقبة أمره، فتعجل الركوب إليه ليلحقه فى بعض الطريق، وراح يتودد إليه أن يعود، على أن يمتثل ما يشترط، فاشترط أن يعود من كان فى السجن إلى السجن، وليأتي هو لمجلس القضاء ليحكم بينه وبين شاكيته، لم يكن من مناص أمام عيسى إلا الإذعان، فرضخ، ووعد أن يمتثل المشروط.

القاضي يأمر والأمير يجيب

 ‏عاد شريك وذهب إلى دار القضاء وكان قد أعلم الشاكية أن تحضر فحضرت، وحضر الأمير، وكلاهما على الأرض تجاورا جلوسًا، والقاضي يعلوهما فوق دكته متوركا، وكان قد عاد إلى السجن من كان فيه، ابتدأ الأمير الحديث برجاء أن يخلي سبيل من سجنهم فقد حضر هو، فأجابه القاضي ملبيا له طلبته وأخرجوا جميعًا، نظر القاضي إلى المرأة وأمرها أن تدلي بشكايتها ففعلت والأمير يسمع، ولما انتهت أقرها الأمير على ما اشتكت منه، فقال له شريك آمرًا: أعد لها ما سلبه رجالك، قال أفعل، وتبني الحائط الذى هدموه، قال أبنيه، قال للمرأة ألك حاجة أخرى؟ قالت نعم، بيت الحارس الفارسي قد نقضوه، قال وتبني بيت حارس بستانها، أجابه أفعل، قال: ألك حاجة أخرى؟ قالت: لا، وجزاك الله خيرًا ثم نهضت من مجلسها وانصرفت.

 هنا تزحزح القاضي إلى جنب فى دكته ووضع كفه على بقيتها وقال، ها هنا أيها الأمير، عازمًا عليه الجلوس بجواره، قام عيسى وهو يتمتم، نعم من عظم أمر الله عظم الله أمره. 

فوائد وعبر:

تعظيم الله من أسرار العظمة‏من عظم أمر الله عظم الله أمره، تلك حقيقة لم تصغها فلسفات أو سطرتها أقلام، بل واقع ماثل لكل ذي عينين، فما من عبد كبر شأنه أو صغر عظم أمر ربه إلا وكان بتعظيمه لأمر الله عظيمًا، وكم من ذي شأن بين الناس يشار إليه بالبنان سقط من علياه إلى حمأة القلة والوضاعة لما استهان بأمر الجليل، ومن ثم كانت العزة حكرًا على الله ورسوله والمؤمنين، والمؤمنون هم المعظمون لأمر الله، ونحسب قاضينا من أولئك المؤمنين، الذين لم يحابوا فى الحق ذا سلطان ولا صاحب جاه، فكان حقًّا أن يبوء المكانة العليا.

الزهد من أسرار العظمةالزاهدون هم الأحرار، فما من أمر يرغم أنف صاحبه بأرض المذلة مثل أن يكون عبدًا لدنياه حريصًا عليها، فلحرصه يقبل الضيم فى سبيلها، بل يسفح الكرامة رخيصة على مذبحها، وأي حرية لمن استعبدته الدنيا، وأي حرية لمن استوطن حب الإمارة قلبه، فهو بكرامته رهين لمن بوأه ذلك السلطان، والزاهدون لا سلطان عليهم، فإن جار عليهم جائر بسطوة ملكه لم يمهلوا بخلع ثوب الإمارة وإلقائه فى وجه صاحبه رخيصًا، وكل ذلك فى شريك تجلى، فلله دره من قاض!

التقوى من أسرار العظمةأولو الأمر يتوجب عليهم أن يلتمسوا أرباب العلم والتقى لينهضوا بشؤون حياة الناس فيقلدونهم الدرجات العلا ليسيروا فى الناس سيرا حسنا، زادهم فى المسير تقوى لربهم تزجرهم عن كل حيف، وعلم يورثهم الكفاءة فيتقنوا العمل، وقد كان شريك كذلك، فعلمه شهد به القاصي والداني، وتقواه كانت فى جلاء النهار، تقوى جعلته صلب المراس مع رأس بلاده فما لانت لوعيد الأمير منه قناة.

العفة من أسرار العظمة: يعفُّ التقيًُ الشريف عن مباهج الدنيا وإن سفرت له كشمس رابعة النهار، ومن قناعته يأباها ويأبى كل زينتها، وأجمل ما فى زينتها سلطان به يعلو وله تعنو الجباه، لكنه راغب فى الآخرة عازف عن الأولى، به رهبة من مسألة الملك له عما صنع بسلطانه، فيرى السلطة على الناس سيفا مصلتا على عنقه فيتقيها ما وسعه الاتقاء، ولكن إن كان الأمر بها ممن لو عصاه عصى الله، ما عساه يصنع إلا الفرار من عصيان لله واقع إلى عصيان يطيق أن يتقيه، فيذعن لأمر ولي الأمر ويتقلد المكروه، لكنه يضع ربه نصب عينيه فيكون ذلك منه خير حاد به إلى الحق زاجر له عن العوج، فيسير سيرا جميلا كسير الصديق والفاروق أو قريبا منه، وهكذا كان شريك، وهكذا كان الدين الحنيف خير صانع لكل مسؤول رشيد وكل حكم سديد.


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة