5 محاور لغرس قيم الصبر والتسامح بين الناس

عزة مختار

19 نوفمبر 2025

53

أنماط حياة غريبة وبعيدة كل البعد عن نمط الحياة في معظم المدن العربية اليوم، كما تشهد تلك المدن ضغوطاً اجتماعية متزايدة؛ من ازدحام وصراعات مصالح وتفاوت اجتماعي وتداخل ثقافات، علاوة على سرعة إيقاع الحياة وضغوط الأعمال اليومية.

هذه البيئة تولد مستويات أعلى من التوتر والغضب والاحتكاك السلبي بين الناس؛ ما يجعل القيم الأخلاقية كالصبر والتسامح ليست رفاهية ثقافية، بل ضرورة حضارية، فالصبر والتسامح في المنظور الإسلامي ليسا قيمتين ثانويتين، وإنما ركيزتان في بناء العمران البشري، فالقرآن جعل الصبر مفتاح الفلاح، وربطه بالقيادة الأخلاقية والاجتماعية؛ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة: 24).

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة على منظومة أخلاقية قوامها ضبط النفس وكظم الغيظ وحسن المعاملة؛ ما جعل المجتمع قادراً على التعايش رغم اختلاف الأعراق والمستويات الاقتصادية وأنماط التفكير، وفي هذه السطور نقدم عدة محاور لغرس القيم الأساسية التي قامت عليها المدينة النبوية.

المحور الأول: كظم الغيظ والعفو.. الأساس القرآني لبناء مجتمعات مستقرة:

يقول تعالى: (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) (آل عمران: 134)، يقدم القرآن ثلاث درجات تصاعدية للسلوك الأخلاقي بين الناس؛ كظم الغيظ، والعفو، والإحسان، وهي قيم أخلاقية لا تعالج السلوك الفردي فحسب، بل تحمي البنية الاجتماعية من الانهيار.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله» (مسند أحمد)؛ هذا الحديث يضع خلق كظم الغيظ في مقام عبادة لها أجر مضاعف؛ ما يعالج جذور الاحتقان في المدن، وهناك بعض الإجراءات التي يمكن القيام بها لتذكير الناس بتلك القيم والأخلاق:

  • تدريب الموظفين العموميين على ضبط الانفعال مع الجمهور.
  • نشر لوحات إرشادية أخلاقية تشمل الأحاديث والآيات القرآنية.
  • تشجيع المدارس والمعلمين على تعليم تلك المفاهيم الأخلاقية.

المحور الثاني: السيطرة على الغضب كمهارة مدنية ضرورية:

الغضب سلوك خطير يؤدي إلى كوارث أخلاقية وإنسانية، يقول تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ) (فصلت)، وعن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب».. فردّدها ثلاثاً. (رواه البخاري)؛ يقول الإمام النووي: «كلمة واحدة لكنها تجمع أصول الأخلاق؛ لأن الغضب مفتاح كل شر»(1).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها، ويقول أنس بن مالك: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط» (رواه مسلم).

ولكن للأسف ما يدور في شوارعنا ليس يخفى على أحد من سلوكيات الغلظة بين المسلمين بعضهم بعضاً، فالبعض يتعلل بكثرة الانشغال والمسؤوليات، والحقيقة أنه لم يكن من هو أكثر انشغالاً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع انشغاله هذا وكثرة الوفود فإنه لم يقصر في حق أهله، ولم يغضب إلا لانتهاك حرمات الله، يدير الضغوط بدون إساءة وبحلم غير مسبوق، يقول الغزالي: «الحلم رأس الأخلاق، لأنه ضبط النفس عند هيجان الغضب»(2).

المحور الثالث: الاعتذار وإصلاح ذات البين.. العمود الفقري للسلام:

الأصل في الشريعة عدم ترك متخاصمين بين المسلمين، وربط الله عز وجل بين التقوى والإصلاح بين الناس، يقول تعالى: (فاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم) (الأنفال:1)، وكيف لا والمجتمع المسلم يقوم في الأساس على الحب والتعاون والتكامل والتكافل؟ كيف ستقام تلك القيم وسط مجتمع موبوء بالشحناء والتخاصم والضغينة؟ يقول ابن تيمية: «إصلاح ذات البين أصل في اجتماع الناس وصلاح أحوالهم، وبدونه يفسد العمران»(3)، هذه العبارة تعد من أهم الأقوال التي تفهم بها إدارة المجتمعات، ويمكن لأهل الحل والعقد أن يكوّنوا لجاناً من العلماء بكل منطقة لحل المشكلات الطارئة بين الناس.

المحور الرابع: الحلم والأناة.. بناء النموذج الأخلاقي للمدينة:

يقول تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43)، فالذي يصبر على أذى الناس ويتحمَّل ويحتسب الأجر من الله ويغفر لهم، هذا هو الذي صنع هذه المعزومة من الأمور؛ أي: من الشؤون، وهذا حثٌّ واضح على أنه ينبغي للإنسان أن يصبر ويغفر(4).

وقال صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس: «إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»، فقال: أخلقان تخلقت بهما، أم خلقان جبلت عليهما؟ فقال: «بل خلقان جبلت عليهما» فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. (رواه مسلم).

وجاء أعرابي فجذب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثر في رقبته، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وضحك، ثم أمر له بعطاء. (رواه البخاري)، هذا الموقف للنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن موقفاً عابراً، وإنما كان خلقاً ومنهجاً لإدارة الصراع بالرحمة والحلم، يقول الغزالي: «الحلم سيد الأخلاق، ومن لزم الحلم قل خصومه»(5).

المحور الخامس: احترام الحقوق العامة.. عماد التعايش:

واحترام الحقوق العامة وكذلك الخاصة من أسس البناء الحضاري في المدينة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (رواه البخاري)، فمن الحقوق ألا يشم جارك رائحة طعامك كي لا يتأذى أبناؤه حين لا يقدر على إطعامهم مثل هذا الطعام، يقول ابن حجر: «يدخل في اللسان واليد كل صور الإيذاء اللفظي والجسدي، وهو أصل في تنظيم العمران»(6).

ومن مظاهر احترام حقوق الغير، احترام الطابور والدور في أي مصلحة أو انتظار وسيلة مواصلات عامة، فاقتحام دور غيرك من نوع من سوء الأدب واعتداء على حق مسلم، كذلك تجنب الاعتداء اللفظي في الأماكن العامة، فلا تخدش أسماع النساء مدعياً الحرية، فكما أن لك حرية في الحديث، فللمجتمع كله حرية في ألا تؤذيه باللفظ أو الفعل.



إقرأ أيضا

عظم فضيلة الصبر في الدنيا والأخرة

التسامح أصل إسلامي وضرورة اجتماعية

__________________

(1) شرح صحيح مسلم، ج16، ص138.

(2) إحياء علوم الدين، ج3، ص152.

(3) مجموع الفتاوى، ج28، ص69.

(4) شرح رياض الصالحين، ج3، ص576.

(5) إحياء علوم الدين، ج3، ص152.

(6) فتح الباري، ج1، ص55.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة