حين تُختبر الرجولة!
في زمنٍ تغيّرت
فيه المقاييس، وتقدّم فيه الجبانُ إلى المنابر، بينما انصرف الشجاع إلى ميادين
الفعل لا ميادين القول، أصبح من الغريب، بل من المؤسف أن نرى من يتساءل عن أصل
المقاومة وكأنها قرار إداري أو مشروع يحتاج إلى دراسة جدوى، كأن الدفاع عن الأرض
ليس فطرة، وأن الذود عن العرض ليس أول ما يتحرك في دم الإنسان حين تُمسّ كرامته.
هذا التغيّر لم
يأتِ لأن الحقّ أصبح غامضاً، بل لأن بعض الناس تغيّرت فيهم البوصلة، فصاروا ينظرون
إلى الاحتلال بمنظار «الحسابات»، ويتعاملون مع الشرف بمنطق «المكاسب والخسائر»،
وهنا يبدأ العجب: كيف يُسأل الحرّ عن سبب رفضه للمهانة؟! وكيف يبرّر الإنسان حقه
الطبيعي في القتال حين يُنتزع منه وطنه؟!
أخطر التحولات
ولعلّ أخطر ما
في هذا التحوّل أن بعض الناس أصبح يتردد في أبسط ما كان يُعدّ أساس النخوة
والرجولة؛ أن يقف الإنسان حين يجتاح الخطر وطنه، وأن يفكر ويعيد التفكير في
الإقدام في اللحظة التي يُمس فيها شرف أهله، هذا التردد الجديد ليس علامة «حكمة»،
بل علامة «خفوت»؛ خفوت في جذوة كانت متقدة لا تسأل إلا: أين العدو؟ وكيف نردّ
عدوانه؟
واسألوا تاريخ
الكويت، حين وقع الغزو العراقي الغاشم واعتدى على الأرض والعرض، هل جلست المقاومة لتجري حسابات الربح والخسارة؟ هل سألت: هل ستكون النتائج في صالحنا؟ هل لدينا
الإمكانات الكافية؟ هل الظروف ملائمة؟ هل المعركة محسومة مسبقاً؟
الجواب: لا.
ولم يبقَ أمام
الرجال إلا سؤال واحد فقط يشبه نبض القلب: هل أستطيع أن أحمل السلاح وأدافع عن
أرضي وأهلي؟!
وكان الجواب في
صدورهم: نعم.. نعم بلا تردد، بلا حسابات، بلا خطاب تنظيري.
لماذا؟! لأنها
الرجولة الصافية التي تعرف طريقها دون إشارات.
رقي إنساني
لم يكن ذلك
تهوّراً ولا حماقة، بل كان تجلّياً لأرقى أشكال الإنسانية؛ أن يشعر المرء أن واجبه
أكبر من عمره، وأن كرامة وطنه أعظم من خوفه، لذلك لم تذهب دماء شهداء الكويت سُدى؛
فقد كانت الشعلة التي أضاءت طريق التحرير، وكانت البوابة التي عبرت منها البلاد
إلى خلاصها.
والدماء التي
سالت لم تكن حبراً على ورق، بل كانت التوقيع الحقيقي على وثيقة التحرير، لذلك بقيت
الكويت لا لأنها استعادت أرضها فحسب، بل لأنها استعادت روحها في تلك الأيام، الروح
التي تقول: «قد يملك العدو مساحة من الأرض، لكنه لا يملك شبراً من إرادتنا.
تضحيات كبيرة
ولو نظرنا إلى
تاريخ الأمم جميعاً، فلن نجد تجربة واحدة تشير إلى أن الحرية هدية، أو أن
الاستقلال منحة، حتى الأمم التي يُظن أنها نالت استقلالها دون قتال، لو دقّقنا
لوجدنا أن هناك دماء سابقة، وتضحيات مكثّفة، ومقاومات طويلة اختصرت الطريق.
ومن يظن أن
التحرير يُنال بالخطب، أو أن الاحتلال يرحل بالتمنّي، أو أن الكرامة تُصان
بالانتظار، فهو لا يعرف طبائع التاريخ ولا يفهم حركة الشعوب، فالمسألة ليست بين
قوة وضعف، بل بين من يملك إرادة الصمود ومن لا يملكها.
فلا توجد حرية
بلا ثمن، ولا توجد كرامة لا تُدفع لها ضريبة، هذه سُنّة الله في الأرض؛ فلا يُعطى
الانتصار إلا ببذل المهج، ولا تُستعاد الأرض إلا حين يقدّم أهلها أغلى ما لديهم.
شعوب تتآكل
وفي المقابل،
الشعوب التي تنتظر الظروف المثالية، وتترقب التوقيت المناسب، وتنشغل بالحسابات
الصغيرة؛ شعوب تتآكل روحها قبل أن تتآكل أرضها؛ لأن الاحتلال الحقيقي يبدأ في نفس
الإنسان قبل أن يبدأ على أرضه، يبدأ عندما يقتنع أنّ المقاومة خيار ثانٍ، وأن
الدفاع عن الشرف وجهة نظر!
ومهما اختلفت
الأزمنة، يبقى السؤال الذي لا يتبدل: هل ما زالت في صدور الرجال تلك الشرارة التي
تجعلهم يقفون حين يسقط غيرهم؟ تلك الشرارة التي تُشعر الإنسان بأن عليه واجباً
أوسع من نفسه، وأنه جزء من قصة أكبر من عمره؟
الرجولة مواقف
إنّ الرجولة
الحقة ليست تلك التي تُعرّف نفسها بالكلام، ولا تلك التي تتزيّن بالشعارات، بل هي
الموقف الذي يثبت حين يتراجع الجميع، والصرخة التي تخرج حين تخفت الأصوات، واليد
التي تمتد إلى السلاح حين تمتد يد العدو إلى الوطن، والفارق بين أمّة تُصان وأمّة
تُهان هو هذا الجواب الداخلي الذي يسكن الصدر: هذه أرضي، وهذه كرامتي، وهذا سلاحي،
ولن يمرّ العدو إلا على جسدي.
ومن فقد هذا
الجواب؛ هزَمته المواقف قبل أن ينهزم في الميدان.
اللهم احرس غزة
بعينك، وامنحها من بعد الشدّة نصراً يُعزّ أهلها.