إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (33)

حسن الصحبة والتعاون على الدعوة

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

هُمومُ رِجالٍ في أُمورٍ كَثيرَةٍ             وَهَمّي مِنَ الدُنيا صَديقٌ مُساعِدُ

يَكونُ كَروحٍ بَينَ جِسمَينِ قُسِّمَت    فَجِسمُهُما جِسمانِ وَالروحُ واحِدُ(1)

لم تنهض دعوةٌ قطّ على كتف رجلٍ واحد، ولا ازدهرت رسالة اعتمدت على جهد منفرد؛ فالدعوة نور لا يكتمل إشعاعه إلا إذا حملته قلوب اجتمعت على الحق، وتآلفت على خدمة الدين، ومن تأمّل مسيرة الأنبياء وجد أن الله لم يبعث أحداً منهم إلا وأيّده بصفوة من الصالحين، يثبتون خطاه، ويعينونه عند الشدائد، ويخففون عنه عناء الطريق، وفي تاريخ أمتنا وحضارتنا، ما من مشروع إصلاحي عظيم إلا بدأ بصحبة طيبة، وجماعة متعاونة، وأيد تتشابك لتبني وتُصلِح.

مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على حسن الصحبة والتعاون على الدعوة

1- التآخي والتعاون بين الدعاة:

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا خَرَجَتْ فِيمَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ، فنَزَلَتْ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ، فَسَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: أَيُّ أَخٍ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري، قال: أنا والله أَدْرِي، قَالَتْ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي فِي حَلِفِهِ لَا يَسْتَثْنِي إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَيَّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ، قَالَ: ‌مُوسَى ‌حِينَ ‌سَأَلَ ‌لِأَخِيهِ النُّبُوَّةَ، فَقُلْتُ: صَدَقَ وَاللَّهِ(2).

فقد أورد القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: (وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً {33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً {34} إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً) (طه).

2- التصديق والموافقة:

أسس القرآن الكريم لمعنى الصحبة والأخوة وأثره في التصديق والإعانة، فحين أمر الله موسى عليه السلام أن يذهب إلى بني إسرائيل، قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ {34} قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) (القصص).

وفي أعقاب الإسراء والمعراج، ذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة، قال: فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه؟ فقالوا بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس، فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله، من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه(3).

3- إعلان المحبة في الله:

عن ثابت البُنَانِيّ قال: كنا عند أنس بن مالك وَجماعة من أصحابه فالتفَتَ إلينا وقال: والله لأنتم أحب إليّ ‌مِن ‌عِدَّتِكُم ‌مِنْ ‌وَلدِ أنس إِلَّا أن يكونوا في الخير أمثالكم(4).

4- الحرص على الأخوة رغم الاختلاف في الرؤى:

قال يونس بن عبد الأعلى: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى، أَلَا يَسْتَقيمُ ‌أَنْ ‌نَكُوْنَ ‌إِخْوَاناً وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ(5).

5- التحذير من البقاء بغير صحبة:

قال خالد بن صفوان: إن أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم، وقال عليّ بن أبي طالب لابنه الحسن: يا بني، الغريب من ليس له حبيب(6)، وقال المغيرة بن شعبة: التّارك للإخوان متروك(7)، وقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مُطَرِّفٍ: ‌لَا ‌حَيَاةَ ‌لِمَنْ ‌لَا ‌إِخْوَانَ ‌لَهُ(8).

6- التواصي بحسن الصحبة وبيان ثمراتها:

عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ‌عَلَيْكَ ‌بِإِخْوَانِ ‌الصِّدْقِ، فَعِشْ فِي أَكْنَافِهِمْ فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ وَعُدَّةٌ فِي الْبَلَاءِ(9)، وقال أيضاً: لقاء الإخوان جلاء الأحزان(10)، وقال عطاء بن أبي رباح: تعاهدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن ‌كانوا ‌مرضى ‌فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإن كانوا نسوا فذكروهم(11)، وقال صَالِحُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: أَوْصِنِي قَالَ: ‌اصْحَبْ ‌أَهْلَ ‌التَّقْوَى فَإِنَّهُمْ أَيْسَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ مُؤْنَةً وَأَكْثَرُهُمْ لَكَ مَعُونَةً.

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الشَّيْبَانِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْإِخْوَانِ، فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ‌هُمُ ‌الْعَامِلُونَ ‌بِطَاعَةِ ‌اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ دُورُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ(12)، وقيل لمعاوية: أيما أحب إليك؟ قال: صديق يحببني إلى الناس(13).

7- التأكيد على حقوق الأخوة ووجوب القيام بها:

روى أحمد في مسنده بسند حسن عن عثمان بن عفّان أنّه كان يخطب فقال: إنّا والله قد صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم في السّفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير.

وقال أبو جعفر بن أصهبان: كان يقال: أوّل المودّة طلاقة الوجه، والثّانية التّودّد، والثّالثة قضاء حوائج النّاس(14)، وقال الماوردي: من ‌جاد ‌لك ‌بمودته، فقد جعلك عديل نفسه، فأول حقوقه اعتقاد مودته ثم إيناسه بالانبساط إليه في غير محرم، ثم نصحه في السر والعلانية، ثم تخفيف الأثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة، أو يناله من نكبة، فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم(15).

دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على حسن الصحبة والتعاون على الدعوة

1- الاستجابة لأمر الله واستجلاب عونه:

قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «‌وَاللهُ ‌فِي ‌عَوْنِ ‌الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»، وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَأَرَادَ بِهِ خَيْراً، ‌جَعَلَ ‌لَهُ ‌وَزِيرَ ‌صِدْقٍ، فَإِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ».

2- نيل ولاية الله:

في مصنف ابن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحِبَّ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّمَا ‌تُنَالُ ‌وِلَايَةُ ‌اللَّهِ ‌بِذَلِكَ، لَا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ.

3- تقويم الخطأ وإصلاح الخلل:

روى البيهقي عن عمر بن الخطاب قال: إذا رأيتم أخاكم زلّ زلة ‌فقوّموه، ‌وسدّدوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ويراجع به إلى التوبة، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ‌الْمُؤْمِنُ ‌مرآة ‌أخيه، إذا رأى فيه عيباً أصلحه(16).

وفي مصنف عبدالرزاق عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاء مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَصَابَ ذَنْباً، فَكَانُوا يَسُبُّونَهُ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي قَلِيبٍ أَلَمْ تَكُونُوا مُسْتَخْرِجِيهِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ‌فَلَا ‌تَسُبُّوا ‌أَخَاكُمْ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي عَافَاكُمْ، قَالُوا: أَفَلَا تُبْغِضُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَبْغَضُ عَمَلَهُ، فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي، وقَالَ الْحَسَنُ: ‌الْمُؤْمِنُ ‌مَرْآةُ ‌أَخِيهِ إِنْ رَأَى فِيهِ مَا لَا يُعْجِبُهُ سَدَّدَهُ وَقَوَّمَهُ وَحَاطَهُ وَحَفِظَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ إِنَّ لَكَ مِنْ خَلِيلِكَ نَصِيبًا وَإِنَّ لَكَ نَصِيباً مِنْ ذِكْرِ مَنْ أَحْبَبْتَ فَثِقُوا بِالْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ وَالْمَجَالِسِ(17).

4- تقاسم الأعباء والتعاون عليها:

روى البخاري عَنْ ‌عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ‌عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ ‌يَنْزِلُ ‌يَوْماً، ‌وَأَنْزِلُ ‌يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وقال ابن المعتز: من اتخذ إخواناً كانوا له أعواناً(18)، وقال بعض البلغاء: صديق مساعد: عضد وساعد(19).

5- الصيانة والحماية:

قال علقمة بن لبيد لابنه: يا بني، إن نازعتك نفسك يوماً إلى صحبة الرجال لحاجتك إليهم فاصحب من إن صحبته زانك، وإن تخففت له صانك، وإذا نزلت بك نازلة مانك؛ (أي: حمل مؤنتك وقام بكفايتك)، ‌وإن ‌قلت ‌صدّق ‌قولك، وإن صلت به شدد صولك، اصحب من إذا مددت يدك لفضلٍ مدها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن بدت منك ثلمة سدها، اصحب من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائق ولا يخذلك عند الحقائق(20).



 اقرأ أيضاً:

صحبتك سمعتك

الصحبة الصالحة

التربية بالصحبة الصالحة




_______________________

الهوامش:

(1) الديوان.

(2) تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2422).

(3) سيرة ابن هشام (1/ 399).

(4) الطبقات الكبرى: ابن سعد (5/ 337).

(5) تاريخ دمشق: ابن عساكر (51/ 302).

(6) أدب الدنيا والدين، ص 161.

(7) الآداب الشرعية: ابن مفلح (3/ 559).

(8) إصلاح المال: ابن أبي الدنيا، ص 49.

(9) الإخوان: ابن أبي الدنيا، ص 84.

(10) أدب الدنيا والدين، ص 161.

(11) حلية الأولياء (5/ 198).

(12) الإخوان: ابن أبي الدنيا، ص 99.

(13) أدب الدنيا والدين، ص 164.

(14) الإخوان: ابن أبي الدنيا، ص 194

(15) أدب الدنيا والدين، ص 176.

(16) صحيح الأدب المفرد، ص 106.

(17) الإخوان: ابن أبي الدنيا، ص 107

(18) أدب الدنيا والدين، ص 161.

(19) المرجع السابق، ص 200.

(20) عيون الأخبار: الدينوري (3/ 6).


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة