فقه دعوة الأقليات المسلمة (3)

حسن الحوار مع غير المسلمين

د. علي الأزهري

23 سبتمبر 2025

55

الحوار لا بد منه في الدعوة إلى الله تعالى، فبدونه لا يمكن التواصل مع الآخرين، ويتعذر البلاغ عن الله تعالى، وقد وردت كثير من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم تبين مكانة الحوار، منها: عن سليم بن جابر الهجيمي قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو محتب في بردة له وإن هدبها لعلى قدميه فقلت: يا رسول الله، أوصني، قال: «عليك باتقاء الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي وتكلم أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزاء فإنها من المخيلة ولا يحبها الله وإن امرؤ عيّرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه منه دعه يكون وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئاً»، قال: فما سببت بعده دابة ولا إنساناً. (صحيح ابن حبان، ج2، ص279 (521)).

ولقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم حوارات متعددة في دعوة أهل الكتاب في مجالات عدة في مجال التعليم، وفي مجال القصص، وفي مجال الأمثال، ومع أصناف متنوعة من أهل الكتاب من اليهود، ومن النصارى، وفي أمور مختلفة، في أمر الدنيا والآخرة.

وكان له صلى الله عليه وسلم في سُنته وسيرته العطرة نماذج للحوار أكثر من أن تحصى، فمنها حواره مع وفد نصارى نجران الذين استقبلهم في مسجده، وأحسن وفادتهم، ومع الملوك والأمراء حيث أرسل إليهم الكتب التي هي عبارة عن حوار مكتوب، وأرسل صحابته إلى الحبشة فآمن النجاشيّ، والأمثلة في السُّنّة كثيرة جداً، إلى غير ذلك من الآثار التي جاءت تأمر بحسن الكلام والحوار وتحذر من سوء الكلام والنقاش والجدال وغير ذلك من آفات الحوار.

نموذج للحوار مع غير المسلمين

عن ثَوْبَانَ مَوْلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا محمّد، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلاَ تَقُولُ: يَا رسول الله؟ فَقَالَ الْيهودي: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الذي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اسْمِي محمّد الذي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي».

فَقَالَ الْيهودي: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيَنْفَعُكَ شيء إِنْ حَدَّثْتُكَ؟»، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ: «سَلْ»، فَقَالَ الْيهودي: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ»، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ».

قَالَ الْيهودي: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ»، قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الذي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا»، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً»، قَالَ: صَدَقْتَ.

قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شيء لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلاَّ نبيّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ، قَالَ: «يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟»، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ؟ قَالَ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلاَ مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلاَ مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ»، قَالَ الْيهودي: لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنبيّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ.

فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الذي سَأَلَنِي عَنْهُ وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيء مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ» (صحيح مسلم: ج1، ص137 (742)).

وحسن حوار النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الحبر اليهودي واضح من نواح عدة، منها أنه صلى الله عليه وسلم يقبل أن يناديه باسمه المجرد أولاً، ومنها أن يجيب عن كل سؤال دون شرط أو قيد، ومنها استماعه صلى الله عليه وسلم لكل الأسئلة حتى النهاية رغم كثرتها بعض الشيء، ومنها عدم سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم الحبر اليهودي بعد هذا الحوار الطويل، إلى غير ذلك من مظاهر حسن الحوار.

أوجه الاستفادة من حوار النبيّ مع الحبر اليهودي

1- اعتراف الداعية للمحاور بحق الاختلاف من بداية الحوار.

2- تواضع الداعية للمحاور، وهذا واضح فيما مر من مناداة الحبر اليهودي للرسول صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً دون أن يعترف له بالرسالة.

3- تجاوز الداعية عن المخالفات غير الجوهرية في الحوار؛ فقد تجاوز النبيّ صلى الله عليه وسلم لليهودي جفاءه وغلظته حتى لا يعوق الهدف الرئيس من الحوار.

4- صبر الداعية على الحوار، وهو من الوسائل المعينة على نجاح الحوار.

5- تركيز الداعية في الحوار على موضوعاته دون الإطناب في غير محله وعدم التشتت والبعد عنه كثيراً.

6- الاستماع الكامل للمحاور.

7- تجريد الأفكار؛ فالفكرة الحسنة تُمْتدح بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ تُرَاجع دون تسفيه قائلها.

8- ترك المراء.

9- تغافر لا تنافر.

10- التحاور العملي: يجب أن يكون الحوار حول ما ينبني عليه عمل وفيما ترجى من ورائه مصلحة أو منفعة، أما عدا ذلك فالخوض فيه لا يفيد.

وبالتأمل في القرآن والسُّنة يتضح معنى التحاور العملي، فأما الكِتاب فآيات كثيرة؛ منها: قوله تعالى: (يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ‌ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ) (البقرة: 189)، حيث جاء الجواب بما تعلق به العمل، مع الإعراض التام عما قصده السائل من السؤال عن الهلال من كونه يبدو في أول الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود إلى حالته الأولى.

وأما السُّنة فأحاديث كثيرة؛ منها عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ. (صحيح البخاري، ج3، ص1349 (3485)).

ولعل من الأسباب التي من أجلها عنى الإسلام عناية كبيرة بالحوار أن الكلام الصادر عن إنسان ما يشير إلى عقله، وطبيعة خلقه، ونوع تربيته، ولأن لغة الكلام عن المجتمعات هي في الحقيقة لغة السلوك، وهي مقياس مستواها العام، تشير إلى مدى تغلغل الفضيلة في بيئتها، أو مدى تحكم الفساد.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة