حرص النبي ﷺ على هداية قومه

بذل النبي صلى الله عليه وسلم جهداً بالغ الأهمية في دعوة قومه إلى الله تعالى؛ فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء؛ فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق».

ومن هنا بدت مظاهر حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية قومه على النحو التالي:

أولاً: دعوة قومه إلى الله تعالى وصبره على أذاهم:

سعى النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه داعياً إياهم إلى وحدانية الله عز وجل وفعل الخيرات وترك المنكرات، وتوجيه قومه إلى ما فيه الخير والصلاح لدينهم ودنياهم، ولأن طبيعة المرء أنه عدو ما يجهل حين يغيب عقله دون أن يتعامل مع كل ما هو جديد ولا مانع من الحذر حتى يتبين له صحة ما جدّ عليه من أمور حياته، فإن قوم النبي صلى الله عليه وسلم استحكمت عقولهم على ما نشؤوا عليه وعادوا كل ما هو جديد، فتصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالأذى البدني والنفسي المادي والمعنوي، غير أن الذي يرجو الخير لأهله لا بد أن يتحلى بالصبر حتى يبين لهم صحة منهج الهداية الرباني الذي أراده الله تعالى لخلقه.

فعند الطبراني في «الكبير» عن الحارث بن الحارث الغامدي، قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان به، وهم يردون عليه ويؤذونه، ‌حتى ‌انتصف ‌النهار وانصدع عنه الناس، وأقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحاً ومنديلاً، فتناوله منها وشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه وقال: «يا بنية، خمري عليك نحرك، ولا تخافي على أبيك»، قلنا: من هذه؟ قالوا: زينب بنته.

فكان دور النبي صلى الله عليه وسلم بيان جوانب الرسالة التي جاء بها من قبل الله تعالى وترغيب قومه فيها والعمل على الأخذ بأيديهم نحوها وتحذيرهم من تخليهم عنها، إلا أن القوم لما عارضوه قابل مواجهتهم له بصبره عليهم حتى يحكم الله بينهم وبينه، خاصة أن بعض أفراد مكة ذوو التأثير طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم طلبات فيها من التعنت والتعجيز.

فكان صبر النبي صلى الله عليه وسلم على قومه سبيلاً من سبل نشر الدعوة والهداية بلا صدام ولا مواجهة، خاصة في وقت غرس اللبنات الأولى لتأسس الهداية في نفوس المؤمنين بها حتى لا يتم القضاء على الإسلام.

ثانياً: الدعاء بالهداية لهم:

تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للأذى الشديد بعد أن جهر بدعوته للناس، غير أنه تحمل شدائد قومه ولم يكن بد من مواجهة الأذى إلا بالدعاء لمن ظن فيهم خيراً للاستجابة لدعوته، فعن نافع، عن ابن عمر، قال: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ ‌الرّجلين إليك؛ بعمر بن الخطّاب، أو بأبي جهل بن هشام»، وكان أحبّهما إلى اللَّه عمر بن الخطاب(1).

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمل الخير في بني قومه يرجو هدايتهم ويستأنس قوتهم يتمنى عزة الإسلام بأحدهم رغم ما نصبوه له من عداوة وما تعرض له هو وصحابته من أضرار بدنية ونفسية.

ولم يكن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم بالهداية لقومه فقط، بل كان يدعو لغيرهم، ففي البخاري عن أبي هريرة قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن ‌دوساً عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: «اللهم اهدِ ‌دوساً وأتِ بهم».

ثالثاً: رفع العذاب عنهم:

كـان النبي صلى الله عليه وسلم يتغافل عن الضـرر الـذي لـحق به مـن قومه رغبة في هدايتهم إلى الله تعالى، فرغم دعوته عليهم وحزنه منهم وضيق صدره نحوهم، فإنه عفا عنهم لعلهم يسلكون طريق الله تعالى.

فعن مسروق قال: قال عبدالله بن مسعود: إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ {10} يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الدخان).

قال: فأتاه أبو سفيان، فقال: أي محمد، إن قومك قد هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فكشف عنهم فعادوا، وقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، قال: «لمضر! إنك لجريء»، فاستسقى فسقوا، فنزلت: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) (الدخان: 15)، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ) (الدخان: 16)(2).

فباغي الهداية لقومه لا ينتقم منهم ولا يلحق الضرر بهم، بل يعمل على إزالة العواقب التي تبعدهم عن الله تعالى، ويزلل لهم العقبات التي تقربهم من الله عز وجل، ويرشدهم إلى ما فيه إصلاحهم وصلاحهم ومصالحهم.

رابعاً: منع استئصال شأفتهم:

يملك النبي صلى الله عليه وسلم الانتقام ممن آذاه أو اعتدى عليه، لكن لحرصه على هداية قومه رضي لهم البقاء سالمين؛ لعل الله يمنّ على من اعتدى عليه بالهداية والتوبة والاستجابة لأمر الله تعالى.

فعن عروة، أن عائشة رضي الله عنها حدثته: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم «أحد»؟ قال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فما شئت: إن شئت أن أطبق ‌عليهم ‌الأخشبين، فقلت: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً»(3).

فما أيسر هلاك القوم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، لكن كان غاية مراده إسعاد قومه في الدنيا بهداية الله تعالى وإنعامهم في الآخرة برضوان الله وجنته.




____________________

(1) الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني (4/ 485).

(2) الجامع لأحكام القرآن الكريم، القرطبي (16/ 131).

(3) البداية والنهاية، ابن كثير (1/ 111).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة