بلسان عربي مبين (3)

جدل الكلمات الأعجمية والدخيلة في القرآن الكريم

د. رمضان فوزي

31 أكتوبر 2025

80

تُعد قضية الألفاظ الدخيلة والمعرَّبة في القرآن الكريم من الإشكالات التي شغلت علماء القرآن والعربية منذ وقت مبكر، فقد ثار الجدل حول أصول بعض الكلمات والمصطلحات (مثل: الطور، السجيل، المشكاة، القسطاس، القرطاس..)، وطبيعة هذه الألفاظ؛ هل هي عربية خالصة، أم تعود للغات أخرى؟ وما مدى تأثير وجودها –إن ثبت– على وصف القرآن بأنه بـ(لِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 195)؟

اختلف العلماء تجاه هذه القضية فريقين على النحو التالي:

القائلون بعجمة هذه الكلمات

هناك فريق من العلماء يرى أن القرآن الكريم حوى بعض الكلمات الأعجمية، وعلى رأس هذا الفريق بعض كبار الصحابة والتابعين؛ فقد روي عن عبدالله بن عباس، ومجاهد، وعكرمة.. وغيرهم، في أحرف كثيرة أنه من غير لسان العرب، مثل: سجيل، والمشكاة، واليم، والطور، وأباريق، وإستبرق.. وغير ذلك. (المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم للجواليقي، ص6).

وممن اختار هذا القول السيوطي، ونقل عن ابن النقيب قوله: «من خصائص القرآن على سائر كتب الله المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير» (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب للسيوطي، ص60).

وقد رأى هؤلاء أن وجود هذه الكلمات لا يقدح في عربية القرآن التي وصفه بها نفسه في أكثر من موضع كما مر بنا، يقول السيوطي: «وأجابوا عن قوله تعالى: (قُرآنًا عَرَبيًّا) (يوسف: 2) بأن الكلمات اليسيرة غير العربية لا تُخرجه عن كونه عربيًّا؛ فالقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية» (تفسير القرطبي (1/ 68)، والمعرب من الكلام الأعجمي، ص59).

القائلون بعروبة هذه الكلمات

وهم جمع كبير من المفسرين وعلماء القرآن؛ حيث ذهبوا إلى أن القرآن عربي قُحّ، وليس فيه شيء خارج عن لسان العرب، مستندين في ذلك إلى الآيات القرآنية التي وصف القرآن فيها نفسه بالعروبة التي ذكرنا بعضاً منها في مقال سابق من هذه السلسلة.

وعلى رأس هؤلاء الإمام الشافعي الذي يقول: «وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ» (أحكام القرآن للشافعي، جمع البيهقي، ص66).

وقد شدد أبو عبيدة النكير على من قال بأن في القرآن غير العربية؛ حيث يقول: «نزل القرآن بلسان عربي مبين؛ فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول..» (مجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 17 - 18)).

أما رد هذا الفريق لوجود بعض الكلمات التي يشتبه في أنها أعجمية في القرآن فيتمثل فيما يلي:

أولاً: يرى الشافعي أنه قد تكون هذه الألفاظ عربية الأصل لكن جهلها بعض العرب لعدم إحاطتهم بلسان العرب؛ لأنه أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي. (أحكام القرآن، ص66).

ثانياً: ذهب بعضهم إلى أن هذه الظاهرة تندرج تحت توارد اللغات؛ فما وُجد في القرآن من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن ‌تواردت ‌اللغات عليها؛ فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم. (ينظر: تفسير القرطبي (1/ 68)).

وقال الطبري: «ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما وجدنا اتفاقَ كثيرٍ منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرْطاس» (تفسير الطبري (1/ 15)).

ثالثاً: هناك رأي ذهب إلى أن هذه الأحرف أصولها أعجمية، لكنها وقعت للعرب، فعُرِّبت بألسنتها، وحوّلتها عن ألفاظ العجم، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب؛ فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: أعجمية فصادق. (ينظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار الحنبلي (1/ 195)).

توفيق بين الرأيين

يمكن الجمع بين الرأيين السابقين بأن الله تعالى خالق اللغات كلها، وأنه تعالى أنزل كتابه باللسان العربي بعد أن استوى هذا اللسان على سوقه، وأصبح من القوة والمتانة والمرونة والفصاحة بما يسع كتاب الله تعالى، وأن من خصائص هذا اللسان أنه مهيمن على كل اللغات، وأنه من القوة بما يسمح له بهضم كثير من ألفاظها ومصطلحاته وإعادة إنتاجها في صورة تتماشى مع قواعده العامة بما يجعل هذه الألفاظ والكلمات عربية حتى وإن كانت مشتركة مع لغة أخرى، وقد أصّل أحد سدنة هذا اللسان وأحد حراسه الأمناء لهذا الكلام؛ وهو أبو الفتح عثمان بن جني الذي جعل عنوان باب في سفره اللغوي الكبير «الخصائص»: «‌‌باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب».

وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يأتي في كتابه العربي المبين ببعض هذه الكلمات ذات الصلة باللغات الأخرى؛ ليستميل قلوب أصحاب هذه اللغات وعقولهم نحو كتابه فقد تكون مفاتيح لإيمانهم به، وليلفت نظر أتباعه والمؤمنين لهذه اللغات ليفتحوا معاجمها ويلتفتوا إليها في لفتة حضارية تتناسب مع عالمية هذا الكتاب الذي جعله الله خاتماً للكتب ومهيمناً عليها ومصدقاً لما بين يديه منها، خاصة أن بعض هذه الكتب قد أنزله الله ببعض هذه اللغات؛ فجاءت هذه الكلمات بمثابة الوشائج التي تربط بين هذه الكتاب وتصل أولها بآخرها؛ فهي كلها تنزيل من حكيم حميد، والله أعلم حيث يجعل رسالته.


اقرأ في هذه السلسلة:

عروبة القرآن.. دلالة البيِّنة ومرامي التعقُّل والإنذار

الحكمة من اختيار الله تعالى اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة