بنو قينقاع اليوم.. التشابه بين غدر يهود الأمس وسلوك الصهاينة الآن

الكفر ملةٌ واحدة، وهو أصل الشرور والأذى
وإساءة الأدب مع الله ومع خلقه، إذْ إنه يدعو صاحبه لمخالفة الفطرة التي فطر اللهُ
الناسَ عليها، وبالتالي يتِّبع هواه، فيمارس كل ما يحلو له ويُشبِع رغباته، إلى أن
يصِل إلى الفجور والظلم والطغيان، فيتعدَّى ويقتل ويدمِّر!
وتجد هذا السلوك في أهل الكفر ومَن سار
مسارهم من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، ولذلك حكى الله موقف المكذِّبين
لمحمد صلى الله عليه وسلم وأنهم في ذلك مثل أسلافهم؛ (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات: 52)، ثم بيَّن
سبب اتفاقهم فقال: (أَتَوَاصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات: 53)، فسبب تواطئهم على ذلك ليس
التواصي به؛ لاختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم
لبعض في الطغيان، وقد أوضح هذا المعنى أيضاً في سورة «البقرة»؛ (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) (البقرة: 118).
فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه
مقالاتهم لرسلهم هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان، وكراهية الحق(1)،
وقد تميَّز اليهود من بين كل الأمم بالمزيد من الفجور والكفر والتطاول ومخالفة
الأعراف والآداب ونقض العهود وتضييع الأمانة وغيرها من الصفات الدنيئة، ووصلوا إلى
مرحلة قال الله فيهم (قُلْ
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ
اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) (المائدة:
60).
بنو قينقاع الأمس
حينما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من
غزوة «بدْر»؛ جمعَ اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم: «يا معشر يهود، أسلموا قبل
أن يصيبكم الله ما أصاب قريشاً»، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً
من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن
الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله قوله: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ
إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {12} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم
مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) (آل عمران)(2).
وقد وقعت غزوة «بني قينقاع» بعد «بدر»،
في العام الثاني من الهجرة، وكانت يوم السبت للنصف من شوال، وجاء في سبب الغزوة أن
امرأة من العرب قدِمت بجَلَبٍ لها (أي بضاعة)، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى
صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبَتْ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها -وهي
غافلة- فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها (عورتها)، فضحكوا منها، فصاحت،
فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا، وشدَّت اليهود على المسلم
فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم
وبين بني قينقاع(3).
وقد حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم،
وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بإجلائهم من
المدينة بسبب غدرهم.
هذه الغزوة بأحداثها أظهرت للنبي صلى
الله عليه وسلم والمسلمين طبيعة اليهود وغدرهم المتأصِّل فيهم، وأنه لا يمكن
التوافق معهم أو الوثوق بهم، حيث لا يجدون أدنى فرصة أو سَعَة إلا ويُظهِرون
ضغينتهم ويمارسون شرورهم، وقد نقضوا وثيقة المدينة التي صدَّقوا عليها وعاهدوا
المسلمين فيها وعاقدوهم على تنفيذ بنودها.
بنو قينقاع اليوم
الغدر والخيانة والفساد في الأرض وإيذاء
الناس وسعيهم الدؤوب لضرِّ المسلمين؛ كلها وغيرها نجدها اليوم متمثِّلة في بني
صهيون، فها هم أولاءِ يعتدون على الأرض والعرض والطفل والمرأة والشيخ الكبير
والمقدسات، ولا يرعون عهداً ولا وعداً ولا ذمة، ولا يراعون قانوناً ولا أعرافاً
ولا معاهدات ولا اتفاقيات، ويجعلون من أنفسهم فوق الجميع بكل باطل، وكأن الكون لهم
والناس عبيدهم!
فهل كان كل هذا إلا امتداداً لفعل آبائهم
وأجدادهم؟ وصدق الله إذ يقول: (لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)
(المائدة: 82)، وهل من وصفٍ يمكن أن ينطبق على أولهم وآخرهم كقول الله: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ) (المائدة:62)، وسعيهم للإفساد في الأرض بكل ما يملكون
من قوة وبكل وسيلة؛ (وَيَسْعَوْنَ
فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) (المائدة: 64).
وانظر إلى التعبير القرآني البليغ في
حقِّهم «يسارعون» و«يسعون» في الإثم والعدوان والفساد والمنكرات وأكل السحت، وما
إن ترى أحداً يجهد جهده ليدرك كل ما هو خبيث؛ إلَّا كان دليلاً على سوئه وسواد
قلبه وطمْس بصيرته، وقد كانوا هم بذلك أوْلى وأجْدر، ولذلك حقَّت عليهم اللعنة
السرمدية؛ (لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن
مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة).
حلفاء بني قينقاع
لما حاربتْ بنو قينقاع تشبَّث بأمرهم عبدالله
بن أبي بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولهم من حلفه مثل الذي لهم من عبدالله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم فقال: يا رسول الله، أتولى
الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم،
قال: ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت القصة في المائدة(4): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء
بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51} فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ
أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ) (المائدة).
يرشد الله عباده المؤمنين حين بيَّن لهم
أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة، ألا يتخذوهم أولياء، فإن بَعْضهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يتناصرون فيما بينهم ويكونون يداً على من سواهم، فأنتم لا
تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم، بل لا يدخرون من
مجهودهم شيئاً على إضلالكم، فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم، لأن التولِّي التام يوجب
الانتقال إلى دينهم، والتولِّي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً،
حتى يكون العبد منهم(5).
اليوم نرى كم من الأذى والضرر اللاحق
بالمسلمين ومقدساتهم وبلدانهم وحقوقهم بسبب حلفاء بني قينقاع.
دروس وعبر
من هذه المواقف لرسول الله صلى الله عليه
وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع؛ نشير إلى:
- أهمية تقوية الصف الداخلي.
- تحقيق الولاء والبراء كما أمر الله به
في كتابه.
- الحذر الدائم واليقظة لمواجهة التحديات
ومحاولات الإضرار بالمسلمين.
- حماية الفرد المسلم وخصوصاً المرأة
المسلمة، وتلبيتها إن تعرَّضت لأدنى أذى.
- ضرورة اتخاذ القرار الحاسم والصحيح في
محلِّه ولمن يستحقه دون تردد.
__________________
(1) تفسير أضواء البيان.
(2) تفسير ابن كثير.
(3) السيرة النبوية لابن هشام.
(4) سيرة ابن إسحاق.
(5) تفسير السعدي.