بناء جسور السلام.. رؤية إسلامية للتعايش بين شعوب العالم

د. أحمد ناجي

08 نوفمبر 2025

12

لقد بذل المفكرون وأصحاب الرأي في العالم جهوداً مضنية في البحث عن منهج يستطيع أن يحقق التعايش والتفاهم بين شعوب العالم، ونقول لهؤلاء وأولئك: إن الإسلام بعقيدته وشريعته هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الغاية.

القرآن الكريم يدعو إلى التعايش بين الناس

لقد حفل القرآن الكريم بالآيات الكريمة التي تدعو إلى قبول الاختلاف والتنوع بين الناس، فمن حيث المبدأ أكد على وحدة الأصل الإنساني، ولكن مع الإقرار بمبدأ الاختلاف، ورتب على ذلك ضرورة التعايش والتفاهم والتعاون، وتبادل المنافع بين الأجناس والأديان المختلفة، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود)، وقال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).

الرؤية الإسلامية للتعايش مع الآخرين

الرؤية الإسلامية في مجال التعايش مع الآخرين تُبنى على أساسين هما؛ مصلحة المسلمين العليا في ضوء الواقع، وصِلات الرحمة الإنسانية والعلاقات الأخلاقية.

ومن النصوص التي تتبنى هذه الرؤية، قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)، وقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46)، وقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وقوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).  

فقبول الآخر والحوار معه من باب التواصل الحضاري والتعايش، من صميم المبادئ الإسلامية السمحة، التي دعا إليها القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية.

مفهوم التعايش

التعايش ضرب من التعاون المشترك الذي يقوم على أساس الثقة والاحترام المتبادلين بطواعية واختيار، الذي يهدف إلى تحقيق أهداف يتفق عليها الطرفان، أو الأطراف التي ترغب في تقبل بعضها، فهو إذن قائم على تعلم العيش المشترك والقبول بالتنوع(1).

شهادة التاريخ على تعايش المسلمين مع الآخرين

لقد عرف التاريخ الإنساني حضارات متعددة، منها اليونانية، والرومانية والهندية، والفرعونية، والفارسية، والكونفوشية، وما وجدنا أعظم من الحضارة الإسلامية في إرساء التعايش بين الناس وقد حفل التاريخ بالنماذج التي تؤيد هذا.

لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هي أول نماذج التعايش مع الآخر، حيث إنه صلى الله عليه وسلم وجد مجتمعاً مختلفاً في عاداته وتقاليده، وكان التباين واضحًا بين المهاجرين والأنصار، غير أنه لم يكن هناك مانع أن يكون للأنصار كيانهم وشخصيتهم المعنوية، ويكون مثل ذلك للمهاجرين، فعاشوا تحت مظلة الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية الجامعة بمقتضى الدين والعقد الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار.  

ولم يكن التعايش بين المسلمين فقط، بل شمل الطوائف المقيمة بالمدينة، وكان منهم اليهود، فبعد إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بأيام وضع دستور المدينة (الصحيفة) ليحدد حدود الدولة، ومكونات رعيتها والحقوق والواجبات لوحدات الرعية.

وتحدثت الصحيفة عن اليهود فقالت: «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وأن لبقية اليهود من بني النجار وغيرهم ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يهلك إلا نفسه».

ثم استمرت الصحيفة تقول: «وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصر للمظلوم، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم»(2).

وكان نفس العهد للنصارى، حيث وضع صلى الله عليه وسلم وثيقة ثانية لنصارى نجران باليمن، عهداً لهم، ولكل المتدينين بالنصرانية عبر المكان والزمان، نصت على أنه: «لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته»؛ ما يعتبر إقراراً وتأسيساً من الوثيقتين لمبدأ التعايش على أساس المواطنة بغض النظر عن العقيدة. 

وعلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم سار الخلفاء الراشدون، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما دخل بيت المقدس فاتحاً، أجاب سكانها المسيحيين إلى ما اشترطوه من ألا يسكانهم فيها يهودي، فالتسامح الديني هو الذي حدا بعمر رضي الله عنه لذلك، وقد قال له بطريرك بيت المقدس عندما أدركته الصلاة: صلِّ حيث أنت، فقال عمر رضي الله عنه: «لا.. لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان، وقالوا هنا صلى عمر، وأخذوا الكنيسة منكم»، وذهب فصلى بعيداً.

التعايش بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة

بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة؛ كان عصر الدولة الأموية (40هـ - 132هـ/ 661م - 750م)، ثم العباسية (132هـ/ 749م) فيما بعد، التي فتحت أبواب الترجمة من أقطار الدنيا، فاطلع المسلمون على ثقافات الأجانب وعلى أنواع المعرفة، فازدهرت الحركة الفكرية والثقافية بفضل مجهودات الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، الذي ساهم في تفعيلها حتى قيل عنه: «أعلم الخلفاء وحكيم بني العباس»، وكان ذلك من خلال جمع التراث القديم وخاصة اليوناني ونقل كتبه إلى بيت الحكمة في بغداد للنسخ والترجمة.

وقد اعترف الغرب بفضل ودور العرب على هذا العهد في إيصال معارف الشرق إلى الغرب، من ذلك ما ذكرته المستشرقة الألمانية زيغرد هونكة، إذ قالت: «.. ففي ظل حكم هارون الرشيد تثبتت مكانة الورق حيث بنيت أولى مطاحن الورق في بغداد ليسير موكب صناعة الورق إلى سورية، إلى فلسطين، إلى مصر لينطلق منها إلى الغرب، إلى تونس ومراكش وإسبانيا.. أجل لقد فتح ورق العرب هذا، عصراً جديداً لم يعد العلم فيه وقفاً على طبقة معينة من الناس.. وفي الواقع فإن استعمال الورق قد أدى في وقت قصير في كل الأنحاء إلى اختراع فن الطباعة»(3).

ثم كانت الخلافة العثمانية التي استمر حكمها من 27 يوليو 1299م حتى 29 أكتوبر 1923م، وقد ساهمت الخلافة العثمانية في تعزيز التعايش بين مختلف الشعوب، وازدهر العلم والابتكار في عهدها، وتطورت العلوم المختلفة.

أصالة التعايش عند المسلمين تظهر في الأندلس

ومن النماذج التي ظهرت فيها أصالة التعايش عند المسلمين، كما ظهر فيه الحقد الدفين عند الصليبيين، ما جرى في بلاد الأندلس، حيث فتحها المسلمون سنة 93هـ، وسقطت سنة 898هـ، وهذا يعني أن المسلمين حكموا فيها أكثر من 8 قرون، ساد فيها العدل والتسامح الديني مع أصحاب الثقافات الأخرى والديانات السماوية، ولا سيما اليهود.

لقد كان تاريخ المسلمين في الأندلس يتسم بالتسامح، وأبرز دليل على ذلك هو تعايش الديانات السماوية الثلاث: الإسلام، والمسيحية، واليهودية على أرض الأندلس في انسجام وتآلف ووئام.

وعندما سقطت غرناطة -آخر معقل للمسلمين بالأندلس عام 1492م- رأينا كيف اُضطهد من بقي فيها من المسلمين، وتعرضوا لأشد أنواع التعذيب، ملاحَقين من قبل «محاكم التفتيش» المقامة خصيصاً لمراقبة كل مسلم يمارس شعائره الدينية وإرغامهم على التنصر، ففر من استطاع إلى شواطئ بلاد المغرب العربي، ومن لم يستطع بقي بإسبانيا تحت نير التعذيب والملاحقة، أو إخفاء إسلامه متتبعين سياسة «التقية» حفاظاً على الحياة.

هكذا هو الإسلام عندما يكون حاكمًا ومطبقًا في حياة الشعوب، نجد المحبة والتعايش والألفة بين الناس، وكل المنصفين يؤكدون هذا المعنى، حتى الحروب التي دخلها المسلمون إنما كانت لرفع الظلم عن الناس وإرجاع الحقوق إلى أصحابها.

وختاماً نقول لكل من يريد إسعاد البشرية ونشر ثقافة التعايش بينها: هذا هو الطريق، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).

للمزيد: 

- من أسباب التخلف الحضاريللمسلمين إغلاق باب الاجتهاد

- كيف تعامل المسلمون مع تراثالحضارات الأخرى؟ 5 ضوابط منهجية للاقتباس الحضاري

- فقه الأولويات وصناعة الوعي

- قراءة في كتاب «المسلمون والحضارةالغربية»

- من أسباب التخلف الحضاري للمسلمينإهمال العلوم التجريبية

 



__________________

(1) «العولمة الثقافية.. رؤية تربوية إسلامية»، وليد أحمد مساعدة (1/ 254)، بتصرف.  

(2) سيرة ابن هشام (2/ 108).

(3) شمس العرب تسطع على الغرب، نقله عن الألمانية، فاروق بيوض، كمال دسوقي (1/ 46048)، بتصرف.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة