الموت الصامت للسمعة.. «النَّقْرة» عُملة تمويل «اقتصاد الفضيحة»!

لقد تحوّل المشهد الإعلامي الرقمي المعاصر من المنارة المأمولة للبيان الصادق وتزكية العقول والقلوب، إلى ما يشبه غابة التنافس الشرسة التي لا ترحم.

فاليوم، لم تعد القيمة تُقاس بجودة المحتوى أو أثره، بل باتت المعايير العليا لكثير من المنصات تختزل في مقياس واحد؛ عدد النقرات والمشاهدات، الذي يجب تحصيله بأي ثمن كان، لقد أدى هذا التحوّل إلى إغفال تام للمعيار الموضوعي الذي يركز على جودة المقال وأثره التنموي والتربوي، ليحل محله معيار إحصائي بحت يعتمد فقط على كثافة المشاهدة.

هذا النموذج الإعلامي، المعروف اصطلاحاً بـ«اقتصاد الفضيحة» أو «إعلام النقرات» (Clickbait)، لم يعد يكتفي بالمنافسة الشريفة على المعلومة الصادقة، بل تحوّل إلى وحش يتغذى على الأساليب الرخيصة التي تضمن لفت الانتباه القسري للمتلقي، ومن أبرزها:

  • الإثارة والتضليل الجزئي: استخدام عناوين صادمة، وصور مبتورة، أو أسئلة مفتوحة تَعِد بكشف سري أو معلومة خطيرة، بينما المحتوى في الواقع لا يفي بهذا الوعد.
  • استغلال العواطف والحاجة: يستخدم عناوين تلمّح لـ«فرصة عمل ذهبية» أو «زيادة راتب غير متوقعة»، بينما تُخفى التفاصيل عمداً لرفع عدد النقرات المتكررة، وهو استغلال غير مهني للحاجة البشرية.
  • انتهاك الخصوصيات والتشهير (الأسوأ أخلاقياً): حيث يتم استغلال الأعراض والفضائح المزعومة لتغذية الجمهور بما يُشبع فضوله السلبي.

الجذور النفسية.. من الغريزة الفرويدية إلى النقرة الرقمية

إن هذا الاعتماد الكاسح على الإثارة والغرائز في الإعلام ليس وليد اللحظة، بل له جذور وتأصيلات نفسية عميقة، فقد استلهمت صناعة الترويج الحديثة هذا النهج من بدايات القرن العشرين، وتحديداً من الأفكار المحورية لنظرية عميد التحليل النفسي سيغموند فرويد.

بناءً على هذا التصور، طوّر تلميذه إدوارد بيرنيز، المؤسس الفعلي للعلاقات العامة الحديثة، فكرة أن الإنسان يتصرف مدفوعاً بسلوكيات غير عقلانية وغرائزية، وعليه، تبنّت هذه المدرسة الترويج القائم على الاستهداف المباشر للغرائز.

واليوم، يأتي اقتصاد الفضيحة ليؤدي الدور ذاته، حيث يتجاهل العقل ويزعزع القيم عن عمد، مكتفياً بمخاطبة غريزة الفضول السلبي أو وهم الطمع في الربح السريع.

العوائد والمكاسب.. رأس المال الحقيقي لاقتصاد الفضيحة

الدافع الأساسي وراء هذا السلوك الإعلامي السام منظومة عوائد مالية مجزية تضمن استمرارية هذا الاقتصاد، منها:

1- العوائد المباشرة (التمويل العاجل): تزداد إيرادات المنصة طرديًا مع عدد المشاهدات والنقرات، كل نقرة على عنوان مثير تُدخل مبلغاً مالياً من المعلنين عبر أنظمة الدفع مقابل المشاهدة (CPM)، أو الدفع مقابل النقرة (CPC)، كما تستغل المنصات هذه الزيادة لتمرير إعلانات لمنتجات أو خدمات مدفوعة.

2- العوائد غير المباشرة (رأسمال المستقبل): تُحوّل المشاهدات العالية إلى زيادة هائلة في أعداد المتابعين؛ ما يُعتبر رأسمال الحساب، ليتم بيع الحسابات والمنصات ذات الجمهور الضخم لاحقاً كأصل مالي لترويج أجندات تجارية أو فكرية، كما تتيح الأرقام المرتفعة لمُنتجي هذا المحتوى اكتساب نفوذ إعلامي وتأثير اجتماعي.

ميزان الصدق.. خيانة الأمانة وخطر الإشاعة

مهنة الإعلام في الإسلام تقوم على أساس الصدق والأمانة، وقاعدة التثبت والتبين التي نص عليها القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6).

لكن اقتصاد الفضيحة يضرب هذه الأصول عرض الحائط، إذ يغذي التشهير وينشر الإشاعة والبهتان ليحقق أرباحاً سريعة، وقد حذرنا الله تعالى من خطورة هذه الممارسة؛ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (النور: 19)، فالعنوان الصادم والصورة المبتورة ما هما في حقيقتهما إلا الوجه الجديد لخيانة الأمانة ونشر الإشاعة والبهتان في عصرنا.

المستمع شريك المغتاب.. مسؤولية بوابة القلب

وهنا يبرز الدور الأخطر في هذه المعادلة، وهو دور المتلقي، إذا كان المنتج يغذّي سوق الفضيحة، فإن المتلقي هو الذي يمول هذه السوق بنقراته ومشاهداته، لقد أوضح أسلافنا القاعدة الأخلاقية: «المستمع شريك المغتاب»، حيث إن النقرة والمشاهدة هي بمثابة الإقرار الصامت والمشاركة الفعلية في الإثم، بل وفي اغتيال السمعة.

قصة شاهد القبر الصامت

يُحكى عن رجل رأى جاره ينشر تفاصيل كاذبة ومبالغاً فيها عن سوء أحوال صديق مشترك، الجار (المتلقي) كان يتابع كل التفاصيل، ينقر عليها ويقرأ التعليقات بشغف، لكنه لم يشارك بكلمة سوء، بعد فترة، تضررت سمعة الصديق وتوقفت مصادر رزقه بسبب هذه الإشاعات، هنا تكمن العبرة؛ فصمته، ومتابعته، ونقرته التي زادت أعداد المشاهدين للإشاعة، كانت شهادة سلبية منه، فكان هو الشاهد الصامت على اغتيال سمعة صديقه.

هذا المحتوى السام محكمة إعدام صامتة، وقد صدق المتنبي وهو يعاتب مَن أصغى للمغتابين مُقرّاً، حيث قال:

قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمِ        جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا

لقد عاتب الشاعر تلك الجماعة الجالسة لسكوتها ومشاركتها بالإنصات للافتراء، وهذه حال جمهور اقتصاد الفضيحة؛ إذ يجلسون أمام الشاشات يُقرُّون بما ينقرون اغتيال سمعة أخيهم، فيتحولون إلى شواهد القبور الصامتة لسمعة المغتاب، هذه النقرات ليست مجرد أرقام، بل هي عملة تُترجم إلى إيرادات، وتعزز من قُدرة المفتري على الاستمرار.

تحصين الحواس.. واجب شرعي وفعل مقاومة

إن الله سبحانه أكّد مسؤوليتنا الفردية عن حواسنا، وهي مفاتيح المعلومات إلى القلب: (وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36)، فالأذن بوابة القلب؛ ما يدخلها يسكن الفؤاد، ويظهر أثره على اللسان والجوارح.

إن واجبنا تجاه أنفسنا ومجتمعنا يفرض علينا:

1- المقاطعة الإيجابية: كن قارئاً ناقداً، النقرة هي العملة التي يتغذى بها اقتصاد الفضيحة، فامتنع عن الدفع، إذا لم يجد هذا المحتوى جمهوراً وتفاعلاً، فسينهار نموذجه المالي ويتوقف إنتاجه.

2- دعم السماع النافع: استبدل السماع النافع بالسماع الحرام: اجعل أُذُنك واعية لكلام الله، مُصغية لمجالس الذكر والعلم.

إن إصلاح المشهد الإعلامي ليس مسؤولية الإعلاميين وحدهم، بل مسؤولية مجتمعية تبدأ من زر النقرة التي نختار أن نضغط عليها؛ فلنحمِ أسماعنا وأبصارنا، ولنجعلهما حصناً للقلب وعوناً على الخير، حتى نكون ممن (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر: 18).

وإدراكاً لهذه المسؤولية العظيمة، كان من دعاء الصالحين: اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، وطلب العافية هنا لا يعني سلامة الأعضاء الجسدية فحسب، بل يشمل أيضاً أن يعافي الله العبد من رؤية المحرمات أو المشاركة في دعمها ونشرها.

وهنا تبرز مسؤولية أخطر؛ فإذا كان الشارع الحكيم قد نهى عن إيتاء المال للسفهاء الذين لا يحسنون التصرف فيه؛ لِما في ذلك من إعاقة لدورة الإنتاج ومنع للاستثمار الأمثل للمال، فكيف بتمويل من يضرب الاستثمار ويُخَرِّب البيوت؟!

يجب أن ندرك أن نقراتنا ومشاهداتنا بمثابة مال رقمي يُضخ في شرايين اقتصاد الفضيحة، فكم من مستثمر نفَر بسبب المواقع التي تفتري لتبتز! وكم من بيوت خُرّبت بسبب إشاعات نُشرت وتم تمويلها بتلك النقرات!

وما دمتَ مسؤولاً عن سمعك وبصرك وفؤادك، فهل ستجعل نقرتك القادمة شاهداً لك أم شاهداً عليك يوم القيامة؟



اقرأ أيضاً:

قراءة الغزالي في فضيحة «إبستاين»

ثقافة الفضيحة.. كيف أثرت على مجتمعاتنا؟

زمن «الفضيحة الحلال».. من همس الإفك إلى فوضى التسريبات!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة