العدل والمساواة بين الأبناء

د. عادل هندي

02 نوفمبر 2025

92

بعد أن وقفنا في المقال السابق على أحد أركان التربية النبوية، وهو مراعاة الفروق الفردية بين الأبناء، وتبيّنا كيف أن الإنصاف في توجيه الأبناء يقتضي فهم شخصياتهم وتقدير تميز كلٍّ منهم دون مقارنة جائرة، فإننا ننتقل في هذا المقال إلى قيمة مكمّلة لا تقل أهمية، وهي العدل والمساواة بين الأبناء، حيث لا يكفي أن ندرك اختلافاتهم، بل لا بد أن نُحسن التعامل معهم بعدل يحفظ القلوب من الحسد، والنفوس من الانكسار، والبيوت من التصدع.

فالتربية القائمة على العدل تزرع الطمأنينة في قلوب الأبناء، وتجعلهم أكثر تقبّلًا لاختلافاتهم، وأقدر على تنمية إمكاناتهم، دون شعور بظلم أو غبن.

وقد أكّدت الدراسات التربوية والنفسية أن هناك علاقة وثيقة بين القيام بحقوق الطفل وصحّته النفسيّة، ومن ذلك حق الطفل في العدل والمساواة بينه وبين إخوته؛ حيث إنّ العدل يحمي الطفل من صور الاضطراب في نموه الشخصـيّ والانفعالي والاجتماعي، ومن ثمّ فالأطفال الذين يُعانُون من تفضيل الوالدين لبعض الإخوة عليهم في الاهتمام والمعاملة يصيبهم الاضطراب في نموهم الشخصـي والاجتماعي، ويميلون إلى البقاء غير ناضجين انفعاليًّا(1).

ولذا، أكّدت السُّنة النبوية ضرورة العدل بين الأبناء، ففي الحديث النبويّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي العَطِيَّةِ»(2)، كما جاء أيضًا عن النعمان بن بشير أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَأرْجِعْهُ»(3)، وفي لفظ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ»، قَالَ النعمان: فَرَجَعَ أبي فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ(4).

وعَن أَنَس أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَقْعَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَجَاءَتْهُ بُنَيَّةٌ لَهُ فَأَجْلَسَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمَا»(5)؛ والعَطِيّة هنا ليست في الأمور المادية وحدها؛ بل يدخل فيها ما يظهر من الأمور المعنوية كالتقبيل والمعانقة والهدية والابتسامة وغير ذلك.

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي مشاعر الأبناء بتوجيه الآباء إلى العدل والمساواة بينهم؛ حتى لا ينزغ الشيطان بين الإخوة والأخوات.

والحديث هنا عن العدل بين الأبناء فيما يمكن العدل فيه ظاهريًّا، أما الميل القلبي فليس بيد صاحبه، كما ذكر أ.د. موسى شاهين لاشين، حيث يعلّق قائلاً: «ويؤخذ من الحديث: جواز الميل القلبي إلى بعض الأولاد والأزواج دون بعض، وإن طُلبت التسوية بينهم في غير ذلك»(6)

ولقد كان السّلف يحرصُون على التسوية بين أبنائهم حتى في القُبَل، يقول ابن قدامة المقدسي في المُغْنِي: «.. ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية، وكراهة التفضيل، قال إبراهيم: كانوا يَسْتَحِبُّون أن يُسَوُّوا بينهُم حتى في القُبَل»(7)، ومن أخطر ما يتسبب فيه غياب العدل بين الأبناء شيوع الكراهية بينهم، وربما يصل إلى حد الأذى البدني وممارسة العنف بينهم.

وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعدل في إظهار مشاعره للأولاد، كما في حديث الرمي السابق: «ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ»(8)، يقول ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري: «.. وفيه من الفقه أنه يجوز للرجل أن يبين عن تفاضل إخوانه وأهله وخاصته في محبته، ويعلمهم كلهم أنهم في حزبه ومودته»(9).

ويقول ابن حجر في «الفتح»: «وفيه التنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضله وتطييب قلوب من هم دونه وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بأمور الحرب وفيه الندب إلى اتباع خصال الآباء المحمودة والعمل بمثلها وفيه حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم»(10).

كما يقتضـي العدل والمساواة عدم تفضيل الذكور على الإناث، فإذا شعرن بتمييزهم عليهن أصَابهنّ الحقد والحسد فيجب المساواة بين الأبناء كلهم.

وحينما يسود العدل بين الأبناء، ويشعر كل واحد منهم أنه محبوبٌ ومقبولٌ كما هو، ومقدَّرٌ بما يملك من قدرات، فإن ذلك يُمهّد الطريق لغرس قيمة أخرى جوهرية في نفوسهم، وهي الروح الاجتماعية.

فالطفل الذي نشأ في بيئة عادلة متزنة، سيكون أكثر قابلية للتفاعل مع المجتمع، وأشدّ استعدادًا لبناء علاقات إنسانية متوازنة، وأكثر وعيًا بمسؤوليته تجاه الآخرين.


اقرأ أيضاً:

مراعاة الفروق الفردية بين الأبناء

مراعاة الاحتياجات النفسية والعاطفية للأبناء




_________________

(1) تفسير السلوك المشكل عند الأطفال من المنظور الإسلامي: عبدالعزيز محمد النغميش، بحث بمجلة التربية، كلية التربية، جامعة الأزهر، العدد (70) مارس: 1998م، ص414 (بتصرف يسير).

(2) صحيح البخاري: كِتَابُ الهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا، بَابُ الهِبَةِ لِلْوَلَدِ، وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ، حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ، وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ، تابع حديث رقم (2585)، ج3، ص157.

(3) المرجع السابق (2586).

(4) صحيح البخاري: كِتَابُ الهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا، باب الإشهاد في الهبة (2587).

(5) مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار: أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق بن خلاد بن عبدالله العتكي المعروف بالبزار (ت 292هـ)، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله وآخرون، مسند أبي حمزة أنس ابن مالك (6361)، ط1/ 1988م، مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رَوَاهُ

الْبَزَّارُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، [انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: أبوالحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (المُتَوَفَّى: 807هـ)، تحقيق: حسام الدين القدسي، ج8، ص156، ط. مكتبة القدسي، القاهرة: 1414هـ/ 1994م.

(6) المنهل الحديث في شرح الحديث: أ.د. موسى شاهين لاشين، ج3، ص32، ط1/ 2002م، دار المدار الإسلامي- مصر.

(7) المغني لابن قدامة: أبو محمد موفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المُتَوَفَّى: 620هـ)، ج6، ص53، ط: 1388هـ، مكتبة القاهرة.

(8) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ (2899).

(9) شرح صحيح البخاري لابن بطال: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبدالملك (ت 449هـ)، ج5، ص94، ط2/ 1423هـ/ 2003م، مكتبة الرشد - السعودية، الرياض.

(10) فتح الباري لابن حجر: ج6، ص92.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة