الزيادة في المعروف مبدأ حضاري

قال المغيرة بن شُعبة: «الزيادة في كل شيء سرف إلا في المعروف» (الإعجاز والإيجاز).

بيان وفوائد

هذه العبارة ليست مجرد جملة عابرة، بل قاعدة أخلاقية وإدارية وحضارية شاملة، يمكن تحليلها من عدة زوايا، منها:

1- التحليل اللغوي والأسلوبي:

  • الزيادة: تعني التجاوز عن حد الكفاية والكافي إلى ما هو أكثر من الحاجة.
  • سرف: التبذير والإفراط، وهو تجاوز الحد المقبول شرعًا وعقلًا وعرفًا.
  • المعروف: كلمة شاملة تعني كل فعل خيرٍ وبرٍّ، وكل ما تعرفه النفس من طيب الأخلاق، وحسن المعاملة، والصلة، والإنفاق في وجوه الخير.
  • أسلوب القصر والاستثناء «إلا»: الأسلوب يستخدم القصر لحصر عدم اعتبار الزيادة إسرافًا في مجال واحد فقط هو المعروف؛ هذا يعطي المعروف مكانة استثنائية وأهمية فائقة.

2- التحليل المضموني والفكري:

تقوم العبارة على ثنائية أساسية:

أ- الزيادة المذمومة (السرف): وهي الزيادة في كل شيء خارج نطاق المعروف، وهذا يشمل:

  • الإسراف المادي: مثل الإفراط في الطعام والشراب والملبس والسكن بما يتجاوز الحاجة إلى حد التبذير.
  • الإسراف المعنوي: مثل الإسراف في المشاعر السلبية (غضب، حقد..)، أو إضاعة الوقت فيما لا فائدة منه.
  • مبدأ الاعتدال: تدفع العبارة إلى الاقتصاد والتوازن في جميع شؤون الحياة، وهو مبدأ قرآني قائم على قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141).

ب- الزيادة المحمودة (في المعروف): وهي الاستثناء الوحيد، والسبب أن طبيعة المعروف تختلف:

  • لا حد للخير: أفعال الخير والبذل والعطاء ليس لها سقف، فمساعدة المحتاج، ونشر العلم، والإحسان إلى الجار، وصلة الرحم.. كلها أمثال لا يضرها الزيادة، بل تزيدها قوة ونماء.
  • العائد المضاعف: الزيادة في المعروف لا تهدر المال أو الجهد، بل تستثمره في بناء العلاقات المجتمعية وتقوية الأواصر الإنسانية؛ ما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
  • استثمار لا إنفاق: النفقة في المعروف تعتبر استثمارًا في رأس المال الاجتماعي والأخلاقي، في حين أن الإسراف في الشهوات إنفاق ضائع.

3- التحليل الاجتماعي والحضاري:

تكشف العبارة عن رؤية مجتمعية متكاملة:

  • مجتمع متوازن: بناء مجتمع يكبح الإسراف في الكماليات والترف، ويوجه الموارد نحو القيم الإيجابية والتعاضد الاجتماعي.
  • التمييز بين الضروري والكمالي: تساعد الأفراد على التمييز بين ما هو ضروري للحياة الكريمة (وهو مقبول)، وما هو تبذير غير مجدٍ.
  • القضاء على الفقر: إذا وجه الأغنياء زائد أموالهم إلى المعروف (كالصدقات، ومشاريع الخير..) بدلاً من الإسراف في الرفاهية الشخصية، فإن ذلك يسهم بطريقة مباشرة في تخفيف حدة الفقر وبناء مجتمع أكثر تكافلاً.

4- الجذور الشرعية والدينية:

تعكس العبارة روح الشريعة الإسلامية التي تحذر من الإسراف وتشجع على الإنفاق في الخير:

  • ذم الإسراف: كما في الآية السابقة.
  • مدح الإنفاق: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 272)، وجاء في حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» (أخرجه ابن ماجة)، وهذا يؤكد مفهوم أن الزيادة في شهوة النفس سرف.

إن العبارة حكمة بالغة تصلح أن تكون منهجًا للحياة، حيث إنها:

  • مبدأ أخلاقي يحث على القناعة والاعتدال.
  • فقه اقتصادي يوجه الموارد نحو الاستثمار النافع بدلاً من الاستهلاك الترفيهي.
  • رؤية اجتماعية تبني مجتمعًا متماسكًا قائمًا على التكافل.
  • توجيه روحي يذكِّر الإنسان بأن قيمة المرء بما يقدمه من خير، لا بما يجمعه من متاع.

فهي، باختصار، دعوة إلى تحويل الزيادة من كونها نقمة (سرف) إلى كونها نعمة (معروف) تعم بالفائدة على صاحبها ومجتمعه.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة