الثقافة الرقمية وأثرها على الهوية الإسلامية للشباب

خلال العقدين الماضيين، وتحديدًا منذ قرع الإنترنت أبواب منازلنا وتحوله تدريجيًا من ضيف إلى فرد من أفراد الأسرة، أصبحنا لا نرى العالم بصورة مختلفة فحسب، بل نتعامل معه بطريقة مختلفة أيضًا.

وأضحى لهذا العصر الرقمي سمات أثرت على هويتنا بصورة أو بأخرى، بداية من طريقة تحصيلنا للمعلومات وما يصحب ذلك من قلة تحرٍّ لمدى دقتها، مرورًا بالطباع التي نستمدها من هذا العصر من سرعة وعجلة وما يصحبهما من قلة صبر، وانتهاء بمقارنات مع أناس لا نعرفهم في أمور لا نكاد نكترث لها حقيقة لولا أننا رأيناهم اقتنوها، وتكاثر في الأموال والأولاد لا لغرض في كثير من الأحيان إلا للتفاخر على الأقران والخلان.

ومع ذلك، فهذا العصر الرقمي كغيره من أمور الدنيا لا ينبغي النظر له من عدسة تُظهره أبيض خاليًا من العيوب، أو أسود بلا مميزات، فمع عيوبه إلا أنه سهّل كثيرًا تحصيل كثير من العلوم كانت تضرب لمعلِّميها أكباد الإبل، وأتاح فرصًا للدعاة لنشر رسائلهم بلا حدود، ولطلبة العلم التلقي عن أشياخ ربما لم يكن ليتاح لهم التتلمذ على أيديهم لولا الإنترنت.

مفهوم الثقافة الرقمية

يمكننا أن نعرف الثقافة الرقمية بأنها جملة المعارف والعادات والقيم والسلوكيات التي تنشأ في ظل البيئة الرقمية، وتشمل أنماط التواصل عبر الإنترنت، التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، والمشاركة في المجتمعات الافتراضية، إضافة إلى الانفتاح على ثقافات عالمية متباينة، وما يصحب ذلك من مزايا وعيوب.

ملامح التأثير الإيجابي على الهوية الإسلامية

1- تسهيل التفقه في الدين:

وفرت المنصات الرقمية حصيلة هائلة من دروس العلوم الشرعية من عقيدة وفقه وحديث وعلوم آلة من نحو وصرف ومنطق يكاد عمر الإنسان لا يتسع لها ولو كرس لها جُل وقته، كما سهل كذلك التتلمذ على أيدي هؤلاء المشايخ بطريقة السلف من سماع وإقراء وإجازة، بيد أن التساهل في منح الطلبة إجازات حولها من شهادة بالعلم إلى شهادة حضور.

2- نشر الدعوة الإسلامية:

صارت الدعوة إلى الله عز وجل للناس جميعًا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم أسهل من أي وقت مضى، وبفضل الله عز وجل واكب كثير من المتصدرين للدعوة خصوصًا في الدول الغربية طرق العرض الحديثة وصرنا نراهم يقدمون البرامج الإذاعية (البودكاست)، وينشئون قنوات على «يوتيوب»، ووصلت الرسالة على أيديهم إلى خلق كثير.

3- التقاء الثقافات:

أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لغير المسلمين من سكان أوروبا والولايات المتحدة تحديدًا رؤية الإسلام بمنظور موضوعي واقعي غير المنظور الذي فُرض عليهم على مدى عقود من قبل وسائل الإعلام التقليدية، التي بدأ يخفت تأثيرها تدريجيًا خصوصاً مع ما يحدث من إبادة جماعية لإخواننا في غزة، كما جعل الشعوب الغربية أكثر وعيًا بمشكلاتها وأكثر اطلاعًا على حلول الإسلام لها كحل مشكلة الزكاة لفجوة الثروات الفجة بين الأغنياء والفقراء التي تزداد اتساعًا بمرور الدقائق والثواني وتدور مع دوران عجلة الرأسمالية وقروضها الربوية.

التحديات والآثار السلبية

1- كثرة التعرض للشبهات:

لا شك أن التعرض غير المحدود لكافة ما يعرضه لنا الإنترنت يعني أن فيض المعلومات المتدفق قد يحمل في طياته شبهات قد تثير شكوكًا لدى الشباب المسلم وتزعزع عقيدتهم، وربما تجرهم في أسوأ الأحوال للإلحاد الذي سيخفونه حتى عن أقرب الأقربين لهم، وفي كثير من الأحيان تتطلب الشبهات دحضًا من أهل العلم الذين ينبغي لهم التعرف على الشبهات المعاصرة ووأدها قبل أن تفتن الشباب في دينهم.

2- ذوبان الهوية:

لا يخفى على ذي عينين انبهار من حوله بالثقافات الغربية، وحرص الأهل على تعليم أبنائهم اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية ولو على حساب لغته الأم، وتجد الطفل يحسن اللهجة البريطانية ولا يستطيع أن يقرأ «الفاتحة»، ويفتخر أهله بذلك، وأنى لنا الفخر بتسلط الأمم على لساننا وما يصحب ذلك من تسلط على عاداتنا وملابسنا بل وحتى نظرتنا للوجود، وتقديمنا للوظيفة والمال على الدين والعبادة! وحدث ما كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم فتنافسنا في الدنيا كما تنافس من قبلنا، فهل نفيق قبل أن تهلكنا كما أهلكتهم؟!

3- الإدمان الرقمي:

الانغماس المفرط في العالم الافتراضي يضعف الارتباط بالأنشطة الاجتماعية والدينية الواقعية.

4- التطبيع مع القيم الرأسمالية:

وأصل هذه القيم أن يرى الإنسان نفسه ومن حوله فيما يملكون لا ما هم عليه حقيقة، فقيمة الإنسان عنده تُقاس بعدد متابعيه، ونوع هاتفه، وطراز سيارته.. إلى غير ذلك من مظاهر التفاخر المفرط بالاستهلاك واتخاذه وسيلة لملء فراغ الذات.

سبل تعزيز الهوية الإسلامية في ظل الثقافة الرقمية

1- التربية الرقمية الواعية:

ينبغي ألا يقل حرص الأبوين على ما يشاهده أبناؤهما وما يتابعونه عن حرصهما على ما يدخل جوفهم.

2- إنتاج محتوى إسلامي جذاب:

يتناسب مع لغة العصر ووسائل الشباب المفضلة وطرق استهلاكهم للمحتوى، والتحدث بلغتهم لا عن طريق تسفيه لغة الخطاب وتحول الخطاب الدعوي لخطاب كرتوني بصبغة دينية، ولكن عن طريق تبسيط لغة الخطاب وتوضيح المصطلحات التي وإن بدت واضحة للمتحدث لكن العبرة في النهاية بالمتلقي.

3- بناء القدوة الرقمية:

عبر مؤثرين يقدمون نموذجًا معاصرًا للمسلم في عصرنا الحالي يسهل على الشباب تقليده، لا محاكاة النموذج الغربي في لهثه المستمر وراء الأرقام والمتابعين، ورغبته المستميتة في رسم صورة وهمية للكمال قد تكون محطمة للمعنويات أكثر منها شاحذة للهمم، وحل مشكلات شباب العرب والمسلمين الحالية الفعلية، لا الانشغال باستيراد المشكلات الغربية وحلها بحلول من الثقافة من التي استوردناها منها.

الثقافة الرقمية ليست بالضرورة تهديداً للهوية الإسلامية، وإنما هي ساحة اختبار للشباب، فإما أن تكون أداة لترسيخ القيم ونشر رسالة الإسلام عالميًا، أو منفذاً لذوبان الهوية والانجراف خلف التيارات المادية والاستهلاكية، ومن هنا تأتي أهمية التوجيه والتربية الرقمية التي تمكّن الشباب من تحويل هذه الثقافة إلى وسيلة قوة وبناء، لا إلى أداة تهميش وضياع.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة