«إسرائيل» وحلم «النصر المطلق».. بين خرافة نتنياهو وواقع الهيمنة الأمريكية
على مدى عقود، رسّخت «إسرائيل» داخل
وعيها الجمعي مفهوم «النصر المطلق» كرمز لقوتها واستمرارها، من بن غوريون إلى
نتنياهو، شكّلت هذه الخرافة أداة سياسية وعسكرية لتبرير العدوان، ووسيلة لحشد
الرأي العام حول هدف واحد؛ التفوق والسيطرة.
لكن الأحداث التي اندلعت في السابع من
أكتوبر 2023م، واستمرت لعامين، كشفت هشاشة هذه الرواية أمام واقع سياسي وعسكري
وقانوني واجتماعي جديد، لم تعد فيه «تل أبيب» طرفًا مسيطرًا، بل متلقية لقرارات
تُفرض عليها من قوة خارجية هي الولايات المتحدة الأمريكية، بينما المقاومة
الفلسطينية فرضت نفسها على الأرض وحققت انتصارات رمزية كبيرة.
انهيار الرواية «الإسرائيلية»
في خطاب مصوّر بثه نتنياهو أخيرًا، حاول
تسويق فكرة أن الضغط العسكري المستمر على غزة أجبر حركة «حماس» على القبول المبدئي
بالصفقة، وكرر أنه على «حافة نصر كبير»، متجنبًا مصطلح «النصر المطلق» الذي شكّل
جوهر روايته طوال الحرب.
هذه المحاولة، رغم صخبها الإعلامي، واجهت
تفنيدًا واسعًا من محللين «إسرائيليين» بارزين، مثل ناحوم برنياع، وبن كاسبيت، فالصحف
الكبرى أكدت أن الحقيقة مختلفة تمامًا: ترمب هو من فرض وقف الحرب، و«حماس» لم
تُهزم بالقوة العسكرية، بل انتصرت جزئيًا من خلال فرض شروط على «إسرائيل» نفسها.
رونين بيرغمان أشار إلى أن تصريحات
نتنياهو قد تدفع «حماس» للتشدد، بينما أكد مستشار الأمن القومي الأسبق غيورا
آيلاند أن المفاوضات ليست تقنية، و«حماس» ستطرح مطالب صعبة، مشيرًا إلى محدودية
قدرة «إسرائيل» على فرض إرادتها على الأرض، وهنا يظهر السؤال المركزي: هل «إسرائيل»
دولة ذات سيادة حقيقية أم كيان تحت الهيمنة الأمريكية؟
البعد السياسي، التبعية الأمريكية
لأول مرة منذ تأسيسها، تجد «إسرائيل»
نفسها أمام واقع سياسي لم تعد فيه القوة العسكرية والسياسية بيدها بالكامل، فترمب،
عبر قراراته، أوقف الحرب، وفرض جدول تبادل الأسرى، وحدد خطوط الانسحاب، وبدأ مرحلة
تفاوضية خارج إطار «المفاوضات تحت النار»، كل ذلك دون استشارة «تل أبيب»؛ ما كشف
حالة من التبعية السياسية غير المسبوقة.
هذه الهيمنة الأمريكية تركت لـ«إسرائيل»
خيارين؛ القبول بالصفقة أو مواجهة عزلة دولية متزايدة، في ظل مجتمع دولي بدأ يعيد
تقييم موقفه من سياساتها في غزة والضفة الغربية، هذه المرحلة تطرح تساؤلات حول مدى
استقلال القرار السياسي «الإسرائيلي»، وهو ما لم يحدث سابقًا بهذا الوضوح.
البعد القانوني.. السيادة والشرعية
من الناحية القانونية، يطرح هذا الواقع
تساؤلات عميقة حول مفهوم السيادة، إصدار قرار وقف الحرب من قوة خارجية، دون الرجوع
إلى الحكومة «الإسرائيلية» يُعد خرقًا ضمنيًا لمبدأ الاستقلالية، إضافة إلى ذلك،
فرض شروط على عمليات تبادل الأسرى والانسحاب يضع «تل أبيب» أمام مأزق مزدوج؛
الالتزام بشروط أمريكية صارمة من جهة، وتآكل مصداقيتها الدولية من جهة أخرى.
يُضاف إلى ذلك الشرعية الدولية، حيث إن ..
تواجه ضغطًا عالميًا بسبب مجازر غزةوانتهاك القانون الدولي الإنساني، هذه النقطة تؤكد أن النصر العسكري وحده لم يعد
معيارًا للسيادة والقدرة على اتخاذ القرار.
البعد العسكري.. حدود القوة «الإسرائيلية»
بعد عامين من القصف والعمليات العسكرية،
فشلت .. في تحقيق أهدافها الإستراتيجية؛
لم تهزم «حماس»، ولم تسترجع جميع الأسرى «الإسرائيليين» بالقوة، ولم تفرض ردعاً
جديداً على المقاومة، على العكس، استمرت قدرات المقاومة في العمق، وفرضت شروطها
جزئيًا على طاولة التفاوض.
انعكس هذا الفشل على المؤسسة العسكرية «الإسرائيلية»،
حيث أشار محللون إلى أن «النصر المطلق» لم يتحقق، وأن الصفقة الأمريكية تمثل
محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكاسب محدودة، وليس تحقيق انتصار إستراتيجي.
البعد الاجتماعي والنفسي.. تصدع المجتمع «الإسرائيلي»
المجتمع «الإسرائيلي» يعيش أزمة هوية غير
مسبوقة، الانقسامات الداخلية بين اليمين واليسار، المتدينين والعلمانيين،
المستوطنين وسكان المدن الساحلية، وصلت إلى مستويات حرجة، صدمات أكتوبر 2023م،
وأعوام الحرب أثرت على الثقة في الدولة والجيش، خصوصًا بين الشباب، وخلقت شعورًا
بالإحباط الجماعي.
استطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تراجع
كبير في ثقة الجمهور بالقيادة، وزيادة الهجرة العكسية، وتنامي القلق الاجتماعي
العميق، هذا الواقع يعكس أن النصر العسكري لم يعد قادرًا على توحيد المجتمع، وأن
الهزيمة الرمزية في الوعي الجماعي باتت أكثر تأثيرًا من الهزيمة الميدانية.
البعد الفلسطيني.. الأسرى والمقاومة
على الجانب الفلسطيني، يمثل خروج مئات
الأسرى، ومن بينهم 250 من ذوي الأحكام المؤبدة، لحظة رمزية هائلة للمقاومة، رفع
شارات النصر أثناء الإفراج عنهم يعكس قدرة الفلسطينيين على فرض شروطهم، ويشكل ضربة
معنوية لـ«إسرائيل».
هذه الصور محفورة في الوعي الجمعي
الفلسطيني، وتعزز سردية الصمود والانتصار الرمزي، وهو ما يضفي بعدًا نفسيًا
وسياسيًا معقدًا على العلاقة بين الطرفين، ويعيد رسم موازين القوة الرمزية في
المنطقة.
البعد الدولي والإقليمي
على الصعيد الدولي، تراجعت مكانة «إسرائيل»
بسبب مجازر غزة المستمرة وانتهاك القانون الدولي؛ ما دفع أوروبا والولايات المتحدة
لإعادة النظر في علاقتها مع «تل أبيب»، انخفاض الشرعية الدولية جعل «إسرائيل» أكثر
اعتمادًا على المظلة الأمريكية، وأقل قدرة على المناورة، ما يضاعف شعورها بالهشاشة
أمام التحديات الإقليمية.
الدول العربية والإسلامية التي أصبحت
مؤثرة في مفاوضات ترمب، تحولت إلى قوى فاعلة في تعديل مسار الصفقة، ما يظهر أن «إسرائيل»
لم تعد الطرف الحاسم في أي ملف إقليمي مهم.
ومعركة الوعي أصبحت أكثر صخبًا من المعارك العسكرية، الإعلام «الإسرائيلي» كشف تناقضات الحكومة، وشكك في رواية نتنياهو عن النصر؛ ما يعكس جدلًا داخليًا حول معنى القوة والنصر.
سقوط خرافة «النصر المطلق»
بعد عامين من الحرب والدمار، تواجه «إسرائيل»
واقعًا قاسيًا؛ فالمقاومة لم تُهزم، والولايات المتحدة تفرض إرادتها، والمجتمع «الإسرائيلي»
يزداد انقسامًا، والمجتمع الدولي يشهد تراجعًا في الدعم، فلم يعد هناك ما يُسمى
«نصر مطلق»، بل إدارة أزمة وجودية مفتوحة على كل الاحتمالات.
الصفقة التي فرضها ترمب تمثل إنقاذًا
جزئيًا لـ«إسرائيل»، لكنها تكشف هشاشة الدولة واستحالة تحقيق النصر المطلق بالقوة
العسكرية وحدها، العالم يشهد تحولًا تاريخيًا، حيث لم تعد القوة العسكرية وحدها
مقياس الانتصار، بل القدرة على التكيف السياسي، والوعي الجمعي، والمكانة
القانونية، والمرونة الدولية، جميعها عوامل حاسمة في صياغة مستقبل «إسرائيل»
والمنطقة.