5 أدوات لتعزيز ثقافة الحوار بين الشباب

غابت الأم عن ساحة التربية، فغابت الأسرة عن دورها وانشغلت بالإطعام أكثر من الإعداد، ونشأ بالتالي جيل لا يعرف كيف يسمع، بقدر ما يتقن الكلام والمطالبة بسفاسف الأمور، فتصاعدت الأصوات، وتغلب الصخب على محاولة الفهم، وغابت لغة الحوار بين الكبار والصغار، وبين الصغار بعضهم البعض، خاصة في أوساط الشباب الذين ينبني عليهم مستقبل الأمة، فصارت الحاجة للحوار والاستماع أكثر من ذي قبل، وليصبح الحوار نفسه طوق نجاة لإنقاذ ما تبقى من إنسانيتنا المشتركة

إن الشباب العربي اليوم، يعيش حالة من التوتر المجتمعي والفكري، تتنازعهم التيارات، وتغريهم المنصات والثقافات المختلفة، وتثقل كواهلهم الأزمات، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى ثقافة حوار رصينة تعيد بناء الجسور بين العقول والقلوب، وبين شباب الأمة الواحدة وإن اختلفت لهجاتهم، ولقد أسس الإسلام منذ بذوغه حضارة قائمة على الكلمة الطيبة والجدال بالتي هي أحسن حتى مع الآخر، فما بال الأمر لو كان بين أبناء الدين الواحد، يقول تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل: 125]

ومن هذه الروح النبيلة، يمكننا أن نستلهم خمس أدوات عملية لغرس ثقافة الحوار بين شبابنا في زمن الانقسام

الأداة الأولى: تربية العقل على الحوار منذ مراحل التعليم الأولي

من جميل ما قيل، أن الله عز وجل جعل للإنسان أذنين ولسان واحد، كي يسمع اكثر مما يتكلم، والحوار مهارة تكتسب ويتعلمها الطفل في مراحله الأولى بالتدريب قبل أن يخرج من بيت أبويه للمجتمع، وكي يتعلم يجب أن يكون لديه القدوة التي تدربه على ذلك، ولن يكون إلا في أب وأم يعلمان جيدا أنهما يؤسسان لبنة مهمة في البناء المجتمعي، فإن صلحت تلك اللبنة كانت عامل قوة في مجتمع المسلمين، فيتعلم الطفل أن يسأل قبل أن يدلي بدلوه في أمر ما، وأن يصغي قبل أن يجيب، يقول الدكتور عبدالكريم بكار: إن الحوار مهارة تربوية تبدأ من تدريب العقل على الإصغاء، والتفهم قبل الإقناع"[1]، ولقد رسخ الإسلام هذه القاعدة حين جعل التعليم بالحوار منهجا نبويا، ففي حديث جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل وهو يجيب، فكان هذا الحوار نموذجا رائعا في غرس المفاهيم عبر السؤال والإصغاء، قال صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (رواه مسلم)، ويقترح دكتور طه جابر علواني أن يتم إدماج مهارات الحوار في المناهج الدراسية لأنه: "ينمي في الشباب ملكة التوازن بين الإيمان بالقناعة والانفتاح على الآخر"[2]، ومن هنا يكمن نجاح غرس بذرة ثقافة الحوار، حين تغرسها الأسرة وتنميها المدرسة

الأداة الثانية: إحياء المجالس الحوارية في المجتمع

قد تضيق المجتمعات بمن فيها، وقد يضيق الناس بالحوار فيما بينهم، لكن في المجتمعات الإسلامية أمر آخر، فالغسلام الذي يأمر بقيم الحب والتكامل والتكافل والمودة والوصال، ويوصي بالجار وصلة الأرحام، لا يمكن أن يضيق بأهله، أو ينتهي الحوار والتفاهم بينهم، يرى الدكتور يوسف القرضاوي: "أن المجالس التي تدار فيها النقاشات بالحجة والبرهان هي حصون الفكر من التعصب والانغلاق"[3]

حين يضيق صدر المجتمع، تذبل مساحاته الآمنة للكلمة. لكن الأمة التي ورثت "الصفّة" في مسجد النبي ﷺ، لا يُعقل أن تضيق بالجلوس والتحاور، وكان المنهج النبوي معبرا عن سعة الصدر والترحاب بالحوار وعرض الأسئلة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس سعة للصدر لأسئلة الشباب والصحابة في المسجد، فيستمع ويبتسم ويجيب برفق لا قسوة فيه، وحين جاءه شاب يطلب الإذن في الزنا، لم يزجره، بل حاوره بالعقل والمنطق والحكمة بأسئلة توقظ ضميره الإنساني قبل الإسلامي: أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ هكذا الناس لا يرضونه" (رواح أحمد)، ففي هذا الموقف تجلى معنى الحوار الراشد: رحمة تقنع، لا سلطة تخيف، يجب على مسئولي التربية إعادة إحياء المجالس الثقافية والحوارية في الجامعات ومراكز الشباب، فإعادة مثل تلك المنتديات يمكن أن يكون صمام أمان ضد الاحتقان المجتمعي

الأداة الثالثة: إدارة الخلاف بروح المقاصد لا الغلبة

الحوار ليس أن تتحدث فقط، بل أن تحتمل وتتقبل أن تكون على خطأ، وفي هذا يقول الدكتور محمد عمارة: "الاختلاف في الرأي ليس نقيضا للوحدة، بل دليل حياة الفكر في الأمة"[4]، لقد حول الإسلام الخلاف إلى مساحة اجتهاد رحبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" (رواه البخاري)، فالخطأ في الاجتهاد لا يبطل قيمة الحوار، ينميها، فلو تعلم الشباب العربي أن الخلاف لا ينتقص من الأخوة، وأن الغلبة ليست هدفا، لصارت نقاشاتهم منابر فكر لا معارك هوية

الأداة الرابعة: تطويع المنصات الرقمية لثقافة القول الحسن

في زمن وسائل التواصل الاجتماعي والخزارزميات والفضائيات تشتعل الحروب بكلمة، وتنشب الخلافات بكلمة، وتشتعل الإشكاليات بين العائلات فتسقط العلاقات وتستمر لسنوات بكلمة، فالكلمة قد تشعل أمة وقد تطفئ نارها، وهنا تأتي الحاجة إلى فقه الكلمة الذي تحدث عنه الشيخ محمد الغزالي في قوله: "الكلمة في الإسلام أمانة، ومن لم يحسن استعمالها فقد خان عهد الإنسانية"[5]، يقول تعالى آمرا عباده بالقول الحسن: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" (البقرة 83)، فالكلمة الحسنة هي جوهر الحوار، إن توجيه الشباب نحو إنتاج محتوى رقمي يقوم على الحقيقة لا الإثارة، وعلى الأدب لا السخرية، هو جهاد معاصر من أجل الوعي

الأداة الخامسة: سياسات تمكينية تشرك الشباب في القرار لا تضعهم على الهامش

ثقافة الحوار لا تزدهر في بيئات الإقصاء، فحين يشعر الشاب أن صوته لا يسمع، يتحول الحوار إلى صراخ، وفي الهدي النبوي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب الذي كان يشركه في الرأي والقرار، فقد ولى أسامة بن زيد قيادة جيش فيه شيوخ الصحابة ليعلم الأمة أن الثقة بالشباب لا تهدى بالكلام، بل بالفعل ووضعهم أمام مسئوليات جسام ليتعلموا ويحملوا الأمانة، وقد حملوها بالفعل، في الوقت الذي يقصي الأب أبناءه الذكور عن مواطن اتخاذ القرار فيخرجوا للمجتمع عاهات عاجزة عن السير بمشكلاتها الخاصة، وكذلك المسئولين في المؤسسات حتى الدعوية منها، نجد إقصاء الشباب بحجة عدم الخبرة هو ديدن تلك الحركات وديدن المسؤولين فيها، فنجد أن الكبار استحوذوا على مواطن القرار بها حتى شابت وكادت تندثر مع الماضي البعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالشباب خيرًا، فإنهم أرق أفئدة" (رواه ابن ماجه)، وفي ضوء مقاصد الشريعة يؤكد الدكتور طه جابر علواني أن "المشاركة الحقيقية تولد الانتماء، والانتماء يخلق الحوار"[6]، وعليه، فإن إشراك الشباب في صياغة السياسات والبرامج هو حجر الأساس في بناء ثقافة حوار مستدامة، وإذا أردنا أن نعرض لنموذج نبوي للحوار مع الشباب وكيف عالج تلك الإشكالية التي قد تصيب بعضهم، وقد مر بنا هذا الحديث الذي أخرجه أحمد حين "دخل شاب على النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن بالزنا، فبدل أن يوبّخه، نظر إليه برحمة، وأدار معه حوارًا عقليًا هادئًا، يستنطق فيه الفطرة: «أترضاه لأمّك؟»، «أترضاه لأختك؟» حتى قال الشاب في النهاية: «فخرجت من عنده وما من شيء أحبّ إليّ من العفاف» (رواه أحمد، رقم 22211)، ففي هذا الموقف تتجلى أركان الحوار المثالي:

الإنصات قبل الإجابة.

الرحمة قبل الحكم.

الإقناع بالحجة لا القهر.

لو استلهم الشباب هذا المبدأ النبوي، لتحول الخلاف بينهم إلى مدرسة تهذب العقول بدل أن تشعلها.

ونخلص من هذا أن الحوار ليس مهارة اجتماعية فحسب، بل عبادة فكرية تحيي روح الأمة، قال تعالى: "وقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [الإسراء: 53].

 



[1] من كتاب فن الحوار والحديث بين الناص ص 41

[2] أدب الاختلاف في الإسلام ص 27 للدكتور طه جابر علواني

[3] من كتاب الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم للقرضاوي ص15

[4] من كتاب القيم الحضارية في الإسلام ص 64

[5] من كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ص 212

[6] أزمة الفكر الإسلامي المعاصر (ص 88) للدكتور طه جابر علواني 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة