3 خطوات لتحقيق الصبر على البلاء
تتغير عافية
الأيام وتنزوي، ويطوى بساط اللذات وينتهي، تنهار القوى، وتتبدل النعم، ويبقى الصبر
قمرًا منيرًا في سماء المؤمنين، يورثهم أنوار السكينة في الدنيا، وأجرًا ممدودًا
بلا حدٍّ في الآخرة، فالصبر مثلُ اسمه مرٌ مذاقته، لكن عواقبه أحلى من العسل؛ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
معايشة المعنى
الصبر: فنّ
التعامل مع الحياة وتقلباتِها، هو أن تتألم دون أن تتكلم، أن تثار لكنك لا تنهار،
لأنك ترى أبواب التوفيق وإن كانت موصدة، إلا أنك على يقين أن من ورائها يدًا رحيمة
ستفتحها في حينها
فالصبر ليس مجرد
انتظارٍ لسُحُب الفرج أن تمطر ساحةَ ابتلائك بغيث الرحمات، بل هو إيمان بأن الفرج
ولو بعد حينٍ لا محالة آت.
جعل الله الصبر
عنوان المحبة، وتوفيقًا منه لمن أحبه، فقال سبحانه: (وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146) ولا يصل العبد إلى هذه المنزلة إلا إذا تحقق الصبر
في قلبه إلا بخطوات ثلاثة.
ثلاثية تحقيق الصبر
قال الإمام ابن
قيم الجوزية: «والصبر يتحقق بثلاثة أمور، حبس النفس عن الجزع والسخط، وحبس اللسان
عن الشكوى للخلق، وحبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر»(1).
أولًا: حبس النفس عن الجزع:
الجزع هو اضطراب
داخلي يهدم في القلب روضة الرضا، ويطمث منه أثر اليقين والهدى، فيتحول البلاء من
كونه اختباراً ربانياً إلى ثأر باطني يتفتق عنه لوم مستمر على حوادث القدر،
واحتجاج على حكمة رب البشر جل جلاله.
لقد تعرضت
الخنساء لمحن شديدة، وكانت صامدة كالشم الرواسي، حتى كان موت أخيها صخر، الذي فطر
قلبها، فجزت جزعًا شديدا، وأقامت على قبره زمانًا طويلا، لا يمنعها من حزنها مانع،
ولا يوقف سيل دموعها حاجز، فانحل قلبها في الرثاء، عازمة على ألا تترك النحيب
والبكاء، ولسان حالها ومقالها:
تبكي خناس فما
تنفكُّ ما عمــرت لـها
عـليه رنيـنٌ وهـي مـفتــار
تبكي خناس على
صَخْرٍ وحُقَّ لها إذ رابَها الدَّهْرُ إنَّ الـدَّهْرَ ضرار
لا بُــدَّ مِن
ميتــةٍ في صــرفِها غير والدَّهْرُ في صرفِه أحْوالٌ وأطوار(2)
فالخطوة الأولى
على طريق تحقيق الصبر منع النفس من أن تنفلت إلى مهاوي الجزع، أو أن تنطق
بالاستنكاف على ما خط بالقدر، وأن يظل الحراك الداخلي موجهًا نحو التسليم
والاحتساب، لا نحو الشكوى والصراخ والعتاب.
ثانيًا: حبس اللسان عن الشكوى:
القلوب كالقدور
ألسنتها مغارفها، واللسان للقلب كالمرآة يعكس ما بداخله، وإن أجحد الجحود أن يشكو
المخلوق أقدار الخالق سبحانه إلى مخلوق مثله مهما عظمت بلواه.
رأى بعض السلف
رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من
يرحمك(3)، وقد قيل في ذلك:
إذا شكوت إلى
ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي
لا يرحم.
فيعقوب عليه
السلام كان يقف على حافة لوعة مريرة لا يطيقها كل أحد، حين فقد قرة عينه يوسف ومن
بعده بنيامين أخاه، فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وسالت بالدمع عيناه حتى ابيضت،
فما انحدرت من لسانه كلمة شكاية إلى البشر، وكأن لسانه موثوق برباط من الصبر.
لم يكن حبسُ
يعقوب لسانَه صمتَ العاجز، ولا سكوتَ المقهور، بل كان صمتَ المتبتل العارف بربه؛
إذ كان يعلم أن الناس، وإن رقّت قلوبهم، لا يملكون كشف الضرّ عنه ولا تحويلاً، وأن
المفزع في الشدائد هو من يعلم السر وأخفى: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) (يوسف: 86)، فحصر
الشكوى في جهة لا تخيب، ورفع حاجته إلى من يجيب.
إذًا لا بد من
حبس اللسان عن شكوى الكريم المنان، لأنها جهل وقبح وعصيان، قال الغزالي: «والشكوى
معصية قبيحة من أهل الدين، وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء إلى
عبد مملوك لا يقدر على شيء، فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء
وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى؛ فهو المُبلي والقادر على
إزالة البلاء»(4).
ثالثًا: حبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر:
الجوارح هي
الأعضاء من يدٍ وقدم وعين وأذن، وهي التي تترجم ما في القلب من خلجاتٍ وانفعالات،
فحين تنزلُ البلية بالعبد، وتصادف في القلب سخطًا، وفي النفس جزعًا، فإن جوارحه
تهتزُّ كما تهتزُّ الأغصانُ أمام عاصفة هوجاء، صراخٌ وبكاء، نياحة ورثاء، شكاية
وعويل، وإتلاف للأموال، وكلها فعالٌ تنافي الصبر، وتمحق الأجر
ومن هنا تبرأ
النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا يحبس جوارحه ولا يمنعها من هذه الفعال، فقال: «ليسَ
مِنَّا مَن ضَرَبَ الخُدُودَ، أوْ شَقَّ الجُيُوبَ، أوْ دَعا بدَعْوَى
الجاهِلِيَّةِ»(5).
ولما مر على
امرأة تبكي بكاءً شديدًا على فقدان صبي لها نهاها عن ذلك، فقد روى البخاري من حديث
أنس قال: مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ
قَبْرٍ، فَقالَ: «اتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي»، قالَتْ: إلَيْكَ عَنِّي، فإنَّكَ
لَمْ تُصَبْ بمُصِيبَتِي، ولَمْ تَعْرِفْهُ، فلما أخبرت به أتت إليه وَقالَتْ:
لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقالَ: «إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»(6).
لذا، كان لزامًا
على المرء أن يمنع يده من بطش، ورجله من طيش، ولسانه من قول ما لا تحمد عقباه، حتى
لا ينقلب الأسى معصية، ولا يصبح الألمُ ذنبًا يعقبه الندم.
فالصابرُ
المتيقن هو من يضع على جوارحه حراسة من نور، ويقيدها بعقال العقل والإيمان، فإذا
ما همّت بالخروج عن حدود الصبر، ردّها بلطفٍ جميل إلى سكون الوقار، كمن يُهدّئ
طفلاً مذعورًا لا يدرك مألات ما يُحدثه.
ختام القول
وبهذه الثلاثية
القيمة، تُصبح الجوارحُ معينةً على ثبات القلب، لا شريكةً في فوضى الاعتراض على
قضاء الرب، فالصبر عند أهل الإيمان ليس سجناً ضيقًا مظلماً، بل هو قصرٌ تشرق فيه
شمس النفس بالضياء، وبيت يُبنى بلبِناتِ الحبِ في ساحات العَناء.
اقرأ
أيضاً:
_________________
(1) الفوائد
لابن القيم.
(2) موقع
الديوان للشعر العربي.
(3) شرح الفوائد
لعمر عبدالكافي.
(4) إحياء علوم
الدين.
(5) صحيح مسلم.
(6) صحيح البخاري.