وقف الطوارئ لإعادة إعمار غزة.. الوقف المطلق كأداة تمويل مستدامة ومرنة

تشكل الأوقاف الإسلامية أحد أهم روافد
التمويل التنموي في التاريخ الإسلامي، حيث مثلت نموذجاً فريداً للتمويل المستدام
الذي يخدم المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية، مستندة إلى قول
الله تعالى: (مَّن ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً) (البقرة: 245)، إشارة إلى أن الإنفاق في سبيل الله (ومنه الوقف)
استثمار رباني يعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
وفي ظل الكارثة الإنسانية التي تعيشها
غزة، تبرز الأوقاف كأحد الحلول الجذرية لإعادة الإعمار، وخاصة ما يعرف بوقف
الطوارئ وهو تطبيق معاصر لمفهوم الوقف المطلق الذي يتسم بالمرونة وسرعة الاستجابة.
مفهوم الوقف المطلق وأهميته في الأزمات
يُعد الوقف المطلق من أكثر أنواع الأوقاف
مرونة وفاعلية، فهو «الذي لم يعيَّن فيه مصرف للوقف»(1)، إذ لا يُخصص
ريعه لجهة بعينها، بل يُترك لإدارة الوقف تقدير أوجه صرفه بحسب الحاجة والمصلحة
العامة، فهو بذلك يشكل إطارًا شرعيًا مرنًا يمكن من خلاله توجيه الموارد الوقفية
لمواجهة الكوارث والأزمات، فيتحول عمليًا إلى ما يُعرف اليوم بـ«وقف الطوارئ».
قال الله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)
(آل عمران: 92)، وهي دلالة على أن الإنفاق في سبيل الله (ومنه الوقف) متى
كان خالصًا ومتجددًا في نفعه، فإنه يحقق أعظم صور البر والإحسان، ولا سيما في
أوقات الشدائد.
ويُعد وقف الطوارئ تطبيقًا معاصرًا
لمفهوم الوقف المطلق أو الوقف العام الذي تُدار أعيانه وموارده وفق أولويات الحاجة
الملحة في أوقات الأزمات، لكنه يتفوق عليهما من حيث المرونة والقدرة على الاستجابة
السريعة، والشمولية؛ إذ يغطي كافة المجالات من إسكان وصحة وتعليم وبنى تحتية، مما
يجعله نموذجًا تطبيقيًا حديثًا لمقاصد الوقف الشرعي.
التجارب التاريخية لوقف الطوارئ
يشهد التاريخ الإسلامي على الدور الكبير
الذي قامت به الأوقاف في إعادة الإعمار ومواجهة الكوارث، إذ كانت أداة فاعلة
لإحياء المدن واستدامة الخدمات العامة، ومن أبرز النماذج:
1- وقف نور الدين زنكي بالشام: أنشأ
البيمارستان النوري في دمشق، وخصّص له أوقافًا دائمة لتوفير العلاج والأدوية
للفقراء ورعاية الجرحى والمتضررين من الحروب الصليبية، كما أوقف مدارس ومساجد
لخدمة المجتمع؛ ما يجعله من أوائل نماذج الوقف الإغاثي والإنساني في التاريخ
الإسلامي.
2- إعمار بغداد بعد اجتياح المغول: ساهمت
الأوقاف في إعادة بناء المدينة وإحياء مؤسساتها العلمية والصحية، فكانت نموذجًا
ملهمًا لتسخير الوقف في إعادة النهوض بعد الكوارث.
3- وقف السلطان قلاوون بالقاهرة: أنشأ
مجمعًا وقفيًا يضم بيمارستان (مشفى) ومدرسة ومسجد وغيرهم، وكان له دور بارز في
مواجهة الأوبئة والأزمات الصحية؛ ما يجعله نموذجًا مبكرًا لوقف الطوارئ الصحي.
ومصداقًا لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَىٰ) (المائدة: 2)، فهذا هو جوهر العمل الوقفي الذي يقوم على
التكافل والتعاون في أوقات الشدائد.
آليات تطبيق وقف الطوارئ في إعادة إعمار غزة
يمكن لوقف الطوارئ أن يؤدي دوراً محورياً
في إعادة إعمار قطاع غزة من خلال عدة محاور:
1- التمويل السريع للمرحلة الطارئة،
ويشمل ذلك توفير السكن المؤقت للنازحين، وتقديم المساعدات الغذائية والصحية
العاجلة، إلى جانب إعادة تأهيل المرافق الأساسية المتضررة لضمان استعادة الحد
الأدنى من مقومات الحياة الكريمة للسكان في أسرع وقت ممكن، مصداقًا لقول الله
تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)، وذلك تعبير عن روح
الإيثار والعطاء التي يقوم عليها مفهوم الوقف.
2- دعم عملية إعادة الإعمار الشاملة، من
خلال تمويل إعادة بناء المنازل والمباني السكنية، وإعادة تأهيل البنى التحتية من
طرق وجسور وشبكات مياه وكهرباء، فضلًا عن دعم القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم،
لضمان استدامة الخدمات الأساسية واستعادة دورة الحياة المجتمعية، فقد قال الله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) (النحل: 90)،
وهذا إشارة إلى أن الإعمار والإصلاح من مظاهر الإحسان الذي أمر الله تعالى به.
3- تحقيق الاستدامة الاقتصادية، وذلك
بإنشاء أوقاف منتجة تسهم في دعم الاقتصاد المحلي، وتمويل المشاريع الصغيرة
والمتوسطة، إلى جانب دعم برامج التدريب والتأهيل المهني التي تمكّن الأفراد من
الاعتماد على الذات والمشاركة الفاعلة في تنمية مجتمعهم، قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا
أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص: 77)، توضح الآية الكريمة توازن الوقف
بين العبادة والعمل الاقتصادي المنتج.
أما في الجانب التطبيقي المعاصر، فبرزت
مبادرات الإغاثة الوقفية من عدد من الدول العربية دعماً لأهل غزة، ومن أبرزها:
1- بيت الزكاة والصدقات المصري بإشراف
فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف: إذ أطلق عدة مبادرات لإعادة الإعمار
وتقديم الإغاثة العاجلة لأهالي غزة، من خلال إرسال القوافل الطبية والغذائية
والدعم المادي للمناطق المتضررة، تجسيدًا لدور الوقف والزكاة في تعزيز التكافل
والتضامن العربي الإسلامي. (بيت الزكاة والصدقات المصري)(2).
2- الأمانة العامة للأوقاف في دولة
الكويت: أعلنت تخصيص نصف مليون دينار كويتي من عوائد الأوقاف لدعم حملة «فزعة لغزة..
الكويت بجانبكم» التي أطلقتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالتنسيق مع وزارة الخارجية
وجمعية الهلال الأحمر الكويتي، وبالتعاون مع بيت الزكاة، في إطار العمل الإنساني
الوقفي الذي يعكس تضامن الشعب الكويتي ومؤسساته الوقفية مع الشعب الفلسطيني في
محنته. (وكالة كونا للأنباء)(3).
نماذج مقترحة لأوقاف الطوارئ في غزة
يمكن إنشاء عدة أنواع من الأوقاف المخصصة
لإعمار غزة، منها:
1- الوقف السكني: يهدف إلى تمويل بناء
الوحدات السكنية وتوفير السكن اللائق للأسر المتضررة، مع تخصيص جزء من الوحدات
السكنية كأوقاف سكنية تستفيد منها الأسر المحتاجة على المدى الطويل.
2- الوقف الصحي: يشمل إنشاء وتجهيز
المستشفيات والمراكز الصحية، وتوفير الأجهزة الطبية، ودعم برامج الرعاية الصحية
للمتضررين، خاصة ذوي الإعاقات الناتجة عن الحرب.
3- الوقف التعليمي: يركز على إعادة بناء
المدارس والجامعات، وتوفير المنح الدراسية للطلاب، ودعم برامج التعليم والتأهيل
المهني، خاصة للشباب الذين انقطعوا عن الدراسة.
4- الوقف الاقتصادي: يهدف إلى إنشاء
مشاريع اقتصادية منتجة توفر فرص العمل، وتدعم الأسر المنتجة، وتساهم في تنشيط
الاقتصاد المحلي.
ضوابط وآليات تنظيمية
لضمان نجاح تطبيق وقف الطوارئ في إعمار
القطاع واستدامة أثره، يجب وضع ضوابط تنظيمية تضمن كفاءة الإدارة وشفافية العمل،
من خلال نظام رقابي ومحاسبي واضح يعزز الثقة المجتمعية، كما يتطلب الأمر اختيار
إدارات مؤهلة ذات خبرة في إدارة الأوقاف والإغاثات، والتنسيق مع مؤسسات الإغاثة
المحلية والدولية لتحقيق التكامل وتجنب الازدواجية، إلى جانب تفعيل آليات المساءلة
والمتابعة لضمان تحقيق الأهداف الإنسانية والتنموية المنشودة.
التحديات وسبل المواجهة
رغم ما يتمتع به وقف الطوارئ من مرونة
وقدرة على الاستجابة السريعة للأزمات، فإن تطبيقه في سياق إعادة إعمار غزة يواجه
مجموعة من التحديات الموضوعية والهيكلية التي تعيق فاعليته الكاملة، وتحد من قدرته
على تحقيق أهدافه التنموية والإغاثية.
ومن أبرز هذه التحديات: الوضع الأمني غير
المستقر، وصعوبة نقل مواد البناء بسبب الحصار، وضعف البنية المؤسسية للإدارة،
والحاجة إلى تنسيق دولي وإقليمي، وذلك امتثالًا لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ)
(التغابن: 16)، ذلك تحفيز على البذل في حدود القدرة، حتى في أحلك الظروف.
في الحقيقة، يمثل وقف الطوارئ الإسلامي
أداة فاعلة وفعالة ومستدامة لإعادة إعمار غزة، إذ يجمع بين الأصالة الشرعية
والمرونة المعاصرة، ويوفر مصدر تمويل مستقلاً ومستداماً، وإن النجاح في تطبيق هذا
النموذج سيمكن من تجاوز البطء البيروقراطي في برامج الإعمار الدولية، وتحقيق
مشاركة مجتمعية واسعة في عملية الإعمار، وضمان استمرارية التمويل لمراحل الإعمار
المختلفة، وبناء نموذج تنموي مستدام يعتمد على الذات.
إن إعادة إعمار القطاع تتطلب تضافر جميع
الجهود الدولية، ويبقى وقف الطوارئ الإسلامي إحدى أهم الأدوات القادرة على الإسهام
في بناء غزة جديدة، أكثر قوة ومرونة واستدامة.
__________________
(1) الوقف العالمي أحكامه ومقاصده..
مشكلاته وآفاقه، نور الدين الخادمي، المؤتمر الثاني للأوقاف الصيغ التنموية والرؤى
المستقبلية، 1427هـ، جامعة أم القرى- مكة المكرمة، ص389.
(2) http://bit.ly/3ICxN1M.
(3) http://bit.ly/3IYI3Bk.