هل فُرض الشتات على اليهود أم هم مَن اختاروه طوعاً؟
متى بدأ الشتات اليهودي؟ سؤال تفرض الدعاية الصهيونية
إجابة موحدة عنه ليعطي الكل الإجابة نفسها: «عندما دمر الرومان الهيكل ونفوا جميع
اليهود».
هذا ما يروّج له
الصهاينة من خلال وسائل الدعاية والإعلام التي يسيطرون على معظمها، ومن خلال وسائل
التواصل الاجتماعي، وهذه قصة بسيطة، وعاطفية، وموظفة ومفيدة سياسياً للصهاينة،
ولكنها ليست صحيحة.
بابل والشتات الأول
كان عمر الشتات
اليهودي قروناً عندما غزت روما فلسطين، ففي عام 586 ق.م، دمر البابليون «الهيكل»
الأول ونفوا النخبة اليهودية إلى بابل، ولكن كورش سمح لهم بالعودة بعد 50 عاماً
فقط عندما غزا بابل، إلا أن معظم اليهود اختاروا عدم العودة، لماذا؟ لأنهم كانوا
قد سيطروا على مفاتيح التجارة وأصبحت لهم قوة وسطوة في بلدان الشتات التي تم نفيهم
إليها.
الازدهار في ظل حكم فارس
ففي ظل الحكم
الفارسي، كانت بلاد ما بين النهرين غنية ومستقرة ومندمجة في طرق تجارية واسعة تمتد
من مصر إلى الهند وآسيا الوسطى، وآنذاك ازدهر التجار على طول ذلك الطريق التجاري،
وازدهر المهاجرون اليهود في المدن الكبرى عبر الإمبراطورية، لم تكن تلك المدن
جيتوهات يهودية، لكنها كانت مراكز عالمية للسلطة الاقتصادية، نابضة بالحياة
الثقافية، ومهيمنة اقتصاديًا على باقي أنحاء الإمبراطورية.
فتوحات الإسكندر الأكبر ومزيد من الشتات الاختياري
سيطر الإسكندر
الهلنستي على البحر الأبيض المتوسط وفتحه أمام حرية الحركة والتجارة، وهنا احتاجت المدن الجديدة إلى إداريين وكتبة
وتجار وجنود، وقد شغل المهاجرون اليهود هذه الأدوار، ومن ثم اتسع الشتات اليهودي
بشكل كبير مع فتوحات الإسكندر الأكبر.
ويقدر المؤرخون
أن 200 ألف يهودي كانوا يعيشون في الإسكندرية وحدها؛ أي حوالي 30% من سكان المدينة
آنذاك، فبحلول الوقت الذي دخلت فيه روما لفلسطين، كان الشتات اليهودي هائلاً، حيث
كان أكثر من 60% من اليهود يعيشون بالفعل خارجها.
روما والحروب اليهودية
إن الاعتقاد بأن
روما شتتت اليهود عبر الطرد الجماعي مجرد أسطورة سياسية لا أساس لها، فقبل الحروب
اليهودية الرومانية كان الشتات قائماً بالفعل، حيث ازدهرت المجتمعات اليهودية في
بلاد ما بين النهرين ومصر والبحر المتوسط، الثورة الأولى (66 - 73م) أدت إلى تدمير
القدس و«الهيكل» الثاني، وحرب «كيتوس» (115 - 117م) أبادت جماعات في قبرص وبرقة،
بينما كانت ثورة «بار كوخبا» (132 - 136م) كارثية؛ إذ قُتل مئات الآلاف ودُمرت قرى
عديدة، رغم ذلك، لم تنفذ روما ترحيلاً شاملاً، بل منعت اليهود من دخول القدس، فيما
بقوا في الجليل والمناطق الريفية، التي أصبحت مركزاً جديداً لليهودية.
تنصير قسري
وجاء التراجع
الحقيقي لليهودية في فلسطين لاحقًا، في ظل الحكم البيزنطي، فبمجرد أن أصبحت
المسيحية دين الدولة، واجه الوثنيون واليهود اضطهاداً شديداً وإجباراً على اعتناق
المسيحية، وقد اعتنقت المعاقل الوثنية في المدن الناطقة باليونانية المسيحية
أولاً، ثم تبعها الفلاحون اليهود العاجزون سياسيًا والمرتبطون بأرضهم.
وعلى النقيض من
ذلك، حافظ يهود الشتات في المراكز الحضرية على مؤسساتهم، واستطاعوا مقاومة التنصير؛
لأنهم كان في وسعهم الانتقال عند الضرورة، ولهذا السبب تحول معظم أحفاد اليهود في
فلسطين إلى المسيحية، ثم إلى الإسلام، بينما حافظ يهود الشتات على اليهودية.
السماح بعودة اليهود
بعد أن فقدت
الإمبراطورية البيزنطية سيطرتها على فلسطين عام 637م، واستولت الخلافة الراشدة على
القدس، سُمح لليهود بالعودة إلى المدينة، وقد مثّل هذا نهاية قرون من القيود
البيزنطية التي منعت اليهود من الإقامة في القدس، إلا أن عددًا قليلًا منهم عادوا،
نظرًا للركود الاقتصادي الذي أصاب المنطقة مقارنةً بالمراكز التجارية المزدهرة
للشتات في بلاد ما بين النهرين ومصر والبحر الأبيض المتوسط.
ونتيجةً لذلك،
ظل عدد السكان اليهود في فلسطين صغيرًا نسبيًا طوال العصر الإسلامي المبكر، مع
استمرار الجليل كمركز رئيس للحياة اليهودية.
لماذا تنكر الصهيونية هذه الحقائق؟
تنكر الصهيونية
هذه الحقائق لأنها تُقوّض الأسطورة السياسية التي تروج لها، ومفادها: «لقد نُفينا
جميعًا على يد الرومان، والآن عدنا»، فالحقائق التاريخية تقرر أن معظم اليهود
غادروا فلسطين طواعية؛ بحثاً عن التجارة في خارجها، الواقع أن اليهود أتيحت لهم
فرص لا تُحصى للعودة، لكنهم اختاروا عدم العودة.
قوة الشتات
تصوير الشتات
اليهودي كنقطة ضعف بالنسبة لليهود تصوير خاطئ، فالشتات كان دائماً قوة اقتصادية بُنيت
من قبل اليهود التجار والمرابين؛ ولذلك كان ثراء ونفوذ شخصيات الشتات، مثل حاييم
وايزمان، والبارون إدموند دي روتشيلد، هو ما مكّن الصهيونية من إقامة الكيان
الصهيوني، على النقيض من ذلك، لم يكن للفلسطينيين صوتٌ في المراكز الاستعمارية
التي سرقت وطنهم ومنحته للصهاينة.
وحتى اليوم،
يختار معظم اليهود العيش في الشتات، ففي الولايات المتحدة، يتربع اليهود على القمة
الاقتصادية في جميع المجالات، وكذلك في بريطانيا ودول أوروبية أخرى، في الولايات
المتحدة تربع هنري كيسنجر على قمة الهرم الدبلوماسي وما زال المفكر الإستراتيجي
الأمريكي الأول، وفي أوكرانيا والمكسيك، أصبح القادة اليهود رؤساء للدولة، ولا أحد
وصف كيسنجر أو الرئيسين زيلينسكي، أو شينباوم، بأنهم يهود ضعاف، لأنهم في الشتات.
اقرأ أيضا:
- وهم القومية اليهودية.. إنهم لا شك زائلون
- فضح الصهيونية.. مفكرون دفعوا الثمن
_______________________
1- Jewish Diaspora – Encyclopedia Britannica
2- Cambridge History of Judaism: The Diaspora in the
Roman Period before CE 70