النية الحسنة والفعل السيئ.. حدود المسؤولية الأخلاقية والقانونية

تخيل أنك كذبت على صديق مريض (كذبة بيضاء) بنية مواساته، لكن اكتشافه للحقيقة أدى لانهياره. نيتك كانت حسنة، لكن فعلك كان سيئاً، هذا يضعنا أمام سؤال أخلاقي قديم: هل النية الحسنة تبرر الفعل السيئ؟

النية في اللغة تعني العزم أو القصد، وهي عزم القلب على أمر من الأمور، كما تعني الإرادة الجازمة، ومن ذلك قوله تعالى: (مَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا) (آل عمران: 145).

وعلى الرغم من هذا الاعتراف بأهمية القصد في تحديد المصير والثواب، تُعدّ العلاقة بين النية والفعل من أقدم وأكثر المعضلات الأخلاقية إثارة للجدل، ففي كثير من الأحيان، قد يقدم شخص على فعل يترتب عليه ضرر أو نتيجة سلبية، لكن دوافعه كانت نبيلة وصادقة، هنا يطرح السؤال: هل تملك النية الحسنة القدرة على محو أو مغفرة الفعل السيئ ونتائجه؟ للإجابة لا بد من تحليل الموضوع من منظور أخلاقي وفلسفي، ثم قانوني، وأخيرًا ديني.

الميزان الفلسفي: النية مقابل النتيجة

ينقسم المفكرون الأخلاقيون حول هذه القضية إلى مدرستين رئيستين:

1- فلسفة النتائج (Consequentialism):

يركز هذا الرأي على النتائج الفعلية للفعل، بالنسبة لهم إذا أدى الفعل إلى ضرر (حتى لو كانت النية حسنة) فإنه يُصنّف كفعل سيئ من الناحية الأخلاقية بغض النظر عن الدافع، (مثال: محاولة مساعدة شخص بطريقة خاطئة تسبب له الأذى)، النية الحسنة هنا قد تُخفف من اللوم على الفاعل، لكنها لا تُزيل الضرر الذي وقع على المتضرر؛ بما يعني أن الحكم الأخلاقي يُبنى على الآثار الواقعية.

2- فلسفة الواجب (Deontology):

يركز هذا الرأي على النية أو الإرادة التي صدر عنها الفعل، على سبيل المثال، يرى الفيلسوف إيمانويل كانط أن الفعل لا يكون ذا قيمة أخلاقية إلا إذا صدر عن واجب و«إرادة خيرة» خالصة، في هذا الإطار، النية هي العنصر الأهم في تقييم الفاعل، لكن هذا لا يعني تساهلاً أو إعفاءً تامًا من المسؤولية عن الفعل السيئ ونتائجه، فالحكمة والحرص جزء من «الإرادة الخيرة»، النية الحسنة قد تبرئ الضمير وتخفف اللوم، لكنها لا ترفع المسؤولية ولا تغفر الضرر الواقع(1).

الخلاصة الفلسفية: النية الحسنة وحدها ليست كافية لتبرير فعل ضار؛ يجب أن تقترن بالحكمة والجهد المعقول لتفادي النتائج السيئة.

العدالة القانونية: القصد الجنائي وتخفيف العقوبة

النية في القانون هي القصد المعنوي وراء الفعل، وتعد عنصرًا أساسيًا في تحديد المسؤولية الجنائية والمدنية، وفي تحديد شدة العقوبة، فالقانون يُميّز بوضوح بين الفعل أو الجريمة المرتكبة بنية سيئة (عمد)، والفعل أو الجريمة المرتكبة بإهمال أو خطأ غير مقصود (نية حسنة أو غياب النية السيئة)، والنية السيئة ترفع من شدة العقوبة بشكل كبير.

حتى في حال الفعل غير العمد، لا تسقط المسؤولية المدنية عن تعويض الضرر المادي الذي لحق بالغير، كما أن النية الحسنة قد تكون سببًا في تخفيف العقوبة الجنائية، لكنها لا تزيل الجُرم ولا تعفي من المساءلة عن النتائج(2).

بما يعني أن النية تُعدّ عنصرًا حاسمًا، تُستخدم لتحديد شدة اللوم والعقوبة، وليس لنفي الفعل أو إبطال آثاره المادية على الضحايا.



البعد الديني: فضل النية وحقوق العباد

في المنظور الديني، تُعطَى النية أهمية قصوى، فهي شرط لصحة الأعمال والعبادات، حيث تتوقف عليها وتصح بصحتها وتبطل ببطلانها، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى»(3) (رواه البخاري)، وهذا يؤكد أهميتها في تقييم الأعمال، واعتبارها في نظر الشرع الحكيم، وأن صحة الأعمال لا يكون إلا بالنية، يستوي في ذلك الأقوال والأفعال.

النية وحدها في بعض الأحيان تكفي لحصول الأجر لقوله صلى الله عليه وسلم: «نية المؤمن أبلغ من عمله»(4)، وقوله: «يبلغ المرء بنيته ما لم يبلغه بعمله»، فالنية الحسنة الخالصة تُثاب، إذا كان الباعث على العمل امتثالاً لأمر الله تعالى، وكان موافقًا للشرع، فذلك عمل صالح ومقبول، حتى لو لم يكتمل العمل، أو فشل الفرد في إتمامه أو أخطأ فيه «ما لم يكن الفعل نفسه محرمًا»(5).

إلا أن الدين يفرق هنا بين الأفعال المتعلقة بحق الله والأفعال المتعلقة بحقوق العباد، النية الحسنة قد تُخفف أو تغفر الفعل السيئ أو الذنب أمام الله تعالى، خاصة إذا كان الفعل ناتجًا عن اجتهاد أو خطأ غير مقصود وتاب صاحبه، لكن عندما يتعلق الأمر بالإضرار بشخص آخر (مال، جسد، سمعة)، فإن النية الحسنة وحدها لا تكفي؛ ويجب على الفاعل أن يسعى لجبر الضرر، وطلب السماح والعفو من المتضرر، لأن هذا حق للعباد لا يسقط إلا بإسقاط صاحبه.

توازن المسؤولية

في الختام، يمكن القول: إن النية الحسنة بوصلة أخلاقية تُحدّد وتُقيم شخصية الفاعل وتحدد دوافعه، وهي عامل تخفيف مهم في الحكم الأخلاقي والقانوني.

لكنها لا يمكن أن تكون دائمًا بمثابة «صك غفران» للفعل السيئ أو آثاره الضارة، فالمجتمع والعدالة تتطلبان أن يتحمل الفرد مسؤولية نتائج أفعاله، القيمة الحقيقية للعمل تكمن في اقتران النية الصادقة بالجهد الحكيم لتجنب إلحاق الضرر بالآخرين، فالنية تُرشّد الطريق، لكن الفعل هو الذي يحدد المصير.




________________

(1) أحمد عاطف (2025)، «فلسفة الواجب الأخلاقي عند كانط: الواجب فوق كل غاية»، متاح على:

https://scienceworksar.wordpress.com/2025/03/07/فلسفة-الواجب-الأخلاقي-عند-كانط-الواجب

(2) دلال لطيف مطشر الزبيدي (2020)، «مبدأ حسن النية في الجرائم العمدية دراسة مقارنة»، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، العدد (58)، ج2.

(3) محمد بن إسماعيل البخاري (2002)، صحيح البخاري، دار بن كثير، بيروت، الطبعة الأولى، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص7.

(4) أبو بكر أحمد الحسين البيهقي (2000)، شعب الإيمان، تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، الجزء الخامس، باب في إخلاص العمل وترك الرياء (6859)، ص343، قال البيهقي: إسناده ضعيف.

(5) أميرة عبد الرحمن عمار (2019)، «النية وأقسامها وشروطها- قواعدها وتطبيقاتها»، مجلة البحوث كلية الآداب جامعة المنوفية.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة