نعمة الشعور بالألم.. مرض «CIP» يكشف الحكمة الإلهية من الوجع!
في عالمٍ يهرب فيه الإنسان من الألم بكل وسيلة
ممكنة، ويبحث عن الدواء الذي يسكّنه أو يمحوه، تظهر حالاتٌ طبية نادرة لتقلب المفهوم
رأساً على عقب، وتدعونا إلى إعادة النظر في معنى الألم.
من هذه الحالات مرضٌ وراثيّ نادر يُعرف باسم
«CIP: Congenital Insensitivity to Pain»؛ أي «عدم الإحساس الخِلْقي بالألم»، وهو اضطراب عصبي يمنع صاحبه من
الشعور بأي ألم مهما كانت شدّته، قد يبدو ذلك –للوهلة الأولى– نعمة عظيمة! فمن منّا
لا يتمنى حياة بلا وجع؟ غير أن الواقع الطبي والمعنوي لهؤلاء المرضى يكشف أنه ليس إلا
محنة عميقة تفضح قيمة الألم، وتُبيّن أنه ليس نقيض العافية، بل جزء من نسيجها.
من المنظور الطبي.. الألم بوصفه إنذارًا حياتيًّا
وثّقت إحدى الدراسات الطبية المنشورة في مجلة
«Pediatric Research» على مدى 10 سنوات حالات لمصابين يعيشون حياة تبدو خالية من الألم،
لكنها في الحقيقة مليئة بالخطر والمعاناة الصامتة(1)؛ إذ يولد المصابون
بمرض «CIP»
بخللٍ في الأعصاب الحسية يجعلهم غير قادرين على إدراك الألم الجسدي رغم سلامة حواسهم
الأخرى.
ولأن الألم نظام الإنذار المبكر في الجسد،
فإن غيابه يفتح الباب أمام كوارث صامتة، تخيّل طفلاً يعضّ لسانه حتى يقطعه دون أن يشعر،
أو مراهقاً يكسر قدمه أثناء اللعب ولا يدري إلا بعد أن تتورّم وتتعفّن! بل إن بعضهم
يُصاب بالتهاب الزائدة الدودية أو نزيف داخلي خطير، دون أن تظهر عليه أي علامات ألم
تدفعه لطلب النجدة!
وهنا تتجلّى الحكمة الإلهية في خلق الألم؛
فالألم ليس عدوًّا وإنما نذير خطر ينبّهنا إلى ما يدور في أجسامنا ولا يظهر لنا أثره،
بتعبير آخر: إنه لغة الجسد لطلب النجدة: توقّف، هنا خطر! أو اهتمّ بنفسك قبل أن يفوت
الأوان! فسبحان (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 7).
إذن، من منظورٍ طبي، يمكن القول: إن الألم
ليس مجرد إشارة سلبية، بل بيانات حيوية تحفظ توازن الجسد واستمراره، والإنسان الذي
لا يشعر بالألم يفقد واحدًا من أهم أنظمة الدفاع التي أودعها الله فيه.
من المنظور الفكري والروحي.. الألم بوصفه معنى وضرورة
إذا كان الألم الجسديّ يحافظ على حياتنا المادية،
فإن الألم النفسيّ هو ما يصون إنسانيتنا، فالحزن، والخسارة، والفشل، والندم -رغم قسوتها-
كلها أشكال من الألم التي تُوقظ فينا معاني العمق والتغيير، كما أن الألم الجسدي يدفعنا
للعلاج، فإن الألم النفسي يدفعنا للتوبة، والتعلّم، والنضج، وذلك مصداق قوله تعالى:
(وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168).
وفي الحديث المتفق عليه: «ما يصيب المسلم
من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه»؛
هذا الحديث يرشدنا لتعريف الألم بوصفه رحمة وتطهيرًا، لا عقوبة أو انتقامًا.
وإن الألم في جوهره لغة روحية تذكّر العباد
بضعفهم وافتقارهم، وتسوقهم سوقًا إلى التوقف عن اللهاث وراء الدنيا، والتأمل ومراجعة
النفس، فهو كما يحفظ الجسد من الهلاك، يحفظ الروح من الكِبْر والجفاف، وكم من إنسانٍ
لم ينصلح حاله إلا بعد أن ذاق ألمًا ما، وكم من قلبٍ لم يَلِن إلا بعد أن انكسر؟!
لذلك، يخطئ كثيرون حين يظنّون أن العافية
تعني غياب الألم تماماً، بينما الحقيقة أن العافية هي التوازن بين الإحساس والسكينة،
فالألم في حدوده الطبيعية دليل على أننا أحياء، وأن نظام الإنذار الداخلي في أجسادنا
وأرواحنا يعمل بكفاءة.
الألم بوصفه رسالة إنقاذ لا عقوبة إهلاك
حين نتأمل تجربة مرضى «CIP»، ندرك أن الألم ليس عدوًّا يجب القضاء عليه، وإنما رسول يجب الاستماع
لرسالته، فمن فقد الإحساس بالألم الجسدي يعيش في خطر دائم، ومن فقد الإحساس بالألم
النفسي يعيش في قسوةٍ وجمودٍ أشد خطرًا.
ولهذا، فإن الشعور بالألم –مهما كان بسيطاً–
برهان على الحياة، وجزء من منظومة العافية لا نقيض لها، وفوق هذا وذاك هو نعمة تستحق
الشكر؛ (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34).
فسبحان من جعل الألم جسراً إلى العافية، وجعل
في كل وجعٍ معنى، وفي كل دمعٍ شفاء: (وعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216).
_____________________
[1] Wang,
H., Zhao, X., Zhang, Y., & Li, J،
(2024)،
A 10-year study of congenital
insensitivity to pain with anhidrosis (CIPA)،
Pediatric Research، https://doi.org/10.1038/s41390-024-03565-x.