من الشجرة إلى الغابة!

استعادة الهوية والشعور بالأهمية بعد انتهاء المسيرة المهنية برؤية إنسانية وإسلامية

إنّ نهاية المسيرة المهنية -سواء جاءت من خلال التقاعد أو الاستقالة أو إنهاء الخدمة المفاجئ- تمثل واحدة من أعمق التحولات في حياة الإنسان، فهي لا تعني مجرد فقدان وظيفة أو راتب؛ بل تهزّ الجذور العميقة للهوية والانتماء والمعنى؛ ذلك لأن العمل كان مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا، ومصدر الإيقاع الذي يضبط وقتنا، ومقياس أهميتنا في أعين الآخرين.

غير أنّ الإسلام يقدّم بُعداً أعمق لهذا التحول، فهو لا يراه خسارة، وإنما انتقال من عبادة عبر العمل، إلى عبادة أوسع تُلخّص معنى وجود الإنسان، يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، فمهما تبدّلت الأدوار المهنية، تبقى الهوية الكبرى –هوية العبد– ثابتة لا تزول.

الشجرة الكبرى للهوية

غالباً ما تكون حياتنا المهنية «الشجرة الكبرى» التي تحدد من نكون وكيف يرانا الآخرون، جذورها تمنحنا الثبات والمعنى، وساقها توفر النظام اليومي، وأغصانها تمنح الظل والمكانة والتقدير الاجتماعي، لكن حين تسقط هذه الشجرة -بقرارٍ ذاتي أو بظروفٍ قاهرة- يخلو الفضاء فجأة، فتظهر الأسئلة المؤجلة: من أنا الآن؟ ماذا يبقى حين يختفي المسمّى الوظيفي؟

تشير الدراسات إلى أنّ فقدان الوظيفة أو التقاعد يمكن أن يؤدي إلى موجة من الحزن والقلق والشعور بالتهميش، وهذا ما عاشه «روبرت»، مدير المصنع الذي تقاعد بعد 35 عاماً من العمل، فوجد نفسه غارقاً في صمت مهيب، يسمع فيه صدى غيابه أكثر من أصوات العالم من حوله، لم يكن ذلك ضعفاً، وإنما حنين إلى الذات التي كانت تشعر بالأهمية من خلال العمل.

التحوّل من الجذر إلى الجوهر

حين تهتزّ هوية الفرد المهنية، لا يقتصر الارتباك عليه وحده، وإنما يمتد أثره إلى الأسرة والأصدقاء والشركاء، الزوج أو الزوجة يكتشف شريكاً جديداً يبحث عن معنى، والأبناء الكبار يواجهون خللاً في ترتيب الأدوار، وأصدقاء العمل تتلاشى روابطهم، لكن الإسلام يعيد ترتيب تلك الدائرة حول محورٍ جديد؛ عبادة الله في كل دور، فحين يتغيّر العمل، لا تتوقّف العبادة؛ بل تتخذ شكلاً جديداً في الخدمة، والتعليم، والإحسان.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو كعابرِ سبيلٍ» (رواه البخاري)، فالمؤمن لا يتشبث بالموقع، وإنما بالاتجاه، ولا بالوسيلة، وإنما بالغاية، العمل كان وسيلة، أما الغاية فهي العبودية الحقّة التي تشمل العطاء والبذل في كل مرحلة من العمر.

الاستعداد للسقوط والنهوض.. تحضير منتصف العمر للتحوّل

أفضل وقت للاحتياط لهذا التحول منتصف العمر؛ حين نكون في الأربعينيات أو الخمسينيات، نملك الخبرة والعلاقات والقدرة على إعادة البناء، وهنا يمكن التقاء الرؤية الإنسانية بالتوجيه القرآني في خريطة من 5 محاور:

1- تبنَّ عقلية المستكشف والحاجّ في طريقه:

بمعنى لا تكتفِ بدور واحد، وإنما جرّب مجالات جديدة من التعلم والخدمة، فالحياة في الإسلام ليست خطاً مهنياً، وإنما رحلة عبودية تتجلى في صور مختلفة.

2- كن جاهزاً مهنياً دوماً:

راقب بيئتك، وطوّر مهاراتك، وجدّد نيتك في كل إنجاز ليكون عبادة لا عادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات».

3- ابنِ شبكة أمان مالية وروحية:

كما يُوصي الخبراء بادخار ما يغطي نفقات أشهر، يُوصيك القرآن بالثقة في رزق الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود: 6)، التوازن بين العمل بالأسباب والتوكل مصدر السكينة.

4- نمِّ مناعتك النفسية بالإيمان والاتصال:

مارس التأمل والذكر والرياضة واللقاءات الاجتماعية الهادفة، فكلما زاد الوعي بأن القيمة لا تقاس براتبٍ أو منصب؛ صارت الروح أكثر حرية وأقل هشاشة.

5- نوّع محاور هويتك وغرسك:

كما تُوزّع الاستثمارات لتقليل الأخطار، وسّع مجالات العطاء؛ التعليم، والتطوع، والإرشاد، والإبداع، والأسرة، والدعوة، كل فرعٍ يمدّ الغابة الداخلية بمصدر جديد من الأهمية والانتماء.

المنظور الإسلامي للتحوّل.. من المهنة إلى الرسالة

يرى الإسلام أنّ العمل عبادة ما دام في طاعة الله، لكن التقاعد لا يعني توقف العبادة، وإنما قد يبدأ فصل أكثر صفاء في خدمة الآخرين ونفع المجتمع، هنا يتحوّل الجهد من كسب الرزق إلى كسب الأجر، ومن بناء السيرة المهنية إلى بناء السيرة الأخروية.

في هذه المرحلة، تتجلّى الهوية الأعمق؛ عبد الله، إنها الجذر الذي تنبثق منه كل الأدوار الأخرى، حين يسقط فرع العمل، تبقى الشجرة حيّة بجذرها، وقد جسّد الصحابة هذا المعنى:

  • أبو بكر رضي الله عنه لم يكن «التاجر»، بل «الصدّيق» الذي قاد الأمة بروح العبودية.
  • عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن «الوالي»، بل خادم الأمة الذي يخشى الحساب أكثر مما يطلب السلطة.

تنمية الغابة الداخلية

التحرر يبدأ حين ندرك أننا لسنا شجرة واحدة، وإنما غابة كاملة من القيم والعلاقات، العمل كان أطول الأشجار، لكنه لم يكن الغابة كلّها، الغابة الحقيقية تضم شجر العائلة، وبستان الصداقات، وشجرة العلم، وشجرة الصحة، وشجرة العبادة، وعندما ننمّيها بتوازن، نصبح أغنى هوية وأثبت جذوراً.

ارسم خريطة غابتك الخاصة: أين تسهم؟ أين تتعلم؟ من تخدم؟ أضف أشجاراً جديدة كلما سنحت الفرصة، واجعل لعائلتك نصيباً في هذه الرحلة كي يكونوا شركاء في نمائك لا شهوداً على انطفائك.

استعادة الشعور بالأهمية.. العودة إلى الله لا إلى الدور

نهاية العمل ليست نهاية الأهمية، وإنما تحولها، فالمعيار الحقيقي للأهمية ليس المنصب، وإنما الأثر والإخلاص، حين تُعيد ترتيب أولوياتك وفق منطق العبادة، يتحوّل الفقد إلى فسحة للإنبات.

فالذي يعيش بعقلية الشجرة يخاف السقوط، والذي يعيش بعقلية الغابة يرى في كل سقوطٍ بداية غصن جديد، والذي يعيش بعقلية العبودية يرى في كل مرحلة فرصة للقرب من الله؛ (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى: 17).

أنت لم تكن شجرةً واحدة، وإنما غابة عامرة تنتظر أن تكتشفها، فلتكن حياتك بعد العمل أجمل فصول سيرتك، وأقربها إلى هدفك الأزلي؛ أن تُحيا وتموت على معنى العبودية الحيّة لله.

مقالات ذات صلة:

هل يمكن استعادة هوية الشباب المسلم؟


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة