من السيرة إلى المسيرة.. كيف تكون حياة النبي ﷺ خارطة طريق لنهضتنا؟

في ظل التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية اليوم من تراجع حضاري وتشرذم سياسي، وانهيار أخلاقي، تبرز الحاجة إلى استلهام السيرة النبوية بوصفها مصدراً للإحياء والتجديد، لقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، والحقيقة أنه لا عودة للأمة بغير دينها، ولا استقامة لها إلا بمنهج نبيها وذلك لاعتبارات عديدة، نذكر منها:

أولاً: السيرة النبوية تبرز القدوة المتميزة والفريدة:

النبي صلى الله عليه وسلم كان قائداً جمع بين الرحمة والحزم، بين التدبير العسكري والعدل الاجتماعي، فقد وضع في معركة «بدر» الخطط الحربية الدقيقة، وأشرك أصحابه في القرار؛ ما يؤكد أهمية الشورى في القيادة(1)، وفي حياته كان متواضعًا يجلس بين أصحابه كواحد منهم، ويخدم أهله بنفسه، فهذا النموذج النبوي لا بد أن تتخذه الأمة قدوة لسياسة أمورها وبوصلة للخروج من أزماتها.

ثانياً: الفرد الصالح أساس الحضارة:

بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في بناء دولته ببناء الفرد المسلم الصالح القادر على التحرك بدينه في آفاق الدنيا من بطن مكة، فكان الفرد أساس الدولة، وقامت منهجية بناء الفرد على محاور متكاملة، منها ترسيخ العقيدة، والتضحية والصبر على متطلبات كل مرحلة، والصدق والأمانة؛ وقد كانا سمة للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قبل الرسالة «الصادق الأمين»(2).

ثالثاً: ثبات القيم الأخلاقية والاجتماعية:

وبجانب حركة الجهاد الواسعة والدفاع عن حدود دولة المسلمين الوليدة، كانت هناك حركة اجتماعية إصلاحية من الجذور لكل ما يخص الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت، وأبقى الإسلام على الصفات العربية الحميدة بعد تهذيبها، واستحدث أخلاقاً وقيماً أعظم لتحسين نمط الحياة العربية لتصبغ بصبغة إسلامية شاملة.

فرفع مكانة المرأة التي وُئِدَتْ في الصغر، وتورّث في الكبر كالمتاع، فصارت ترث بنصاب معلوم في الإسلام: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) (النساء: 7)، وحارب النبي صلى الله عليه وسلم القبلية العصبية النتنة، وأعلى قيمة الأخوة الإسلامية فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وجعل قيمة الأخلاق من قيمة الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (الترمذي).

وهذه القيم الأخلاقية والاجتماعية هي التي يحتاجها المجتمع المسلم في عصرنا هذا لإعادة اللحمة الاجتماعية وإعادة النسيج الاجتماعي.

رابعاً: بناء الدولة المدنية:

بدأت مع الهجرة مرحلة بناء الدولة المدنية، وكان ذلك عبر خطوات وترتيبات واضحة، فبدأت ببناء المسجد ليكون مركزاً للعبادة والتعليم والإدارة، ثم خطوة ترسيخ المجتمع بأواصر الأخوة بين المهاجرين والأنصار وإذابة الفروق الاجتماعية بين الطرفين لبناء وحدة اجتماعية قوية، ثم وضع وثيقة المدينة التي تعد أول دستور مدني ينظم العلاقة بين المسلمين واليهود وغيرهم، على أساس العدل والحقوق المتبادلة(3)، فالنهضة لا تقم إلا على دستور عادل، ومؤسسات قوية، وقيم إنسانية وأخلاقية شاملة.

خامساً: السيرة وإدارة الأزمات والتحديات:

منذ فجر الرسالة وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم سلسلة من الأزمات والمواجهات والتحديات، حيث حصار في شعب أبي طالب، والهجرة، والغزوات التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم بالتخطيط والصبر والمثابرة وبذل الجهد والتربية والإعداد.

وبالمقارنة بما يدور اليوم من أحداث، فإن ما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بكثير، فمنه يمكن تعلم كيفية إدارة الأزمات والتعاطي معها بالإعداد والإبداع وتوظيف طاقات الشباب وترك مساحات للتفكير الجاد وانتقاء القادرين على القيادة منهم وتدريبهم لتولي مقاليد الأمور.

سادساً: التعايش مع غير المسلمين:

رسخ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ التعايش في المدينة المنورة بين المسلمين بعضهم بعضاً، فقال: "«المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله» (رواه البخاري، ومسلم)، وبين المسلمين وغيرهم وهو ما حدث في «وثيقة المدينة»، وبين المسلمين والكافرين كما ظهر في «صلح الحديبية».

ولكن بشرط ألا يكون هذا التعايش على حساب الثوابت الإسلام، فالمعاهدات الدولية ليست مرفوضة بالجملة ويمكن احترامها، ولا تنقض إلا بإبلاغ واضح ومعلن بإنهائها.

وما يحدث اليوم من حروب طائفية داخلية بين المسلمين لا يمت للدين بصلة، وقد قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة»، فعلى المسلمين التعلم من سيرة نبيهم بتقوية صفوفهم الداخلية، وتقوية اللحمة الداخلية، مع عدم رفض اليد الممتدة بالسلام معهم.

سابعاً: عالمية الرسالة:

تؤكد النصوص القرآنية وأحداث السيرة النبوية عالمية الإسلام، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم الرسائل لملوك الدول العظمى وقتها يدعوهم إلى الإسلام، فقد أرسل لهرقل وملوك الفرس والحبشة.

والأمة اليوم يجب أن تنتبه لدورها الحضاري العظيم، في وقت يحتاج فيه العالم إليها وفي ظل طغيان العلمانية المادية، ويجب أن تنتبه لدورها الحضاري المنوط بها في نشر مفاهيم العدل والرحمة والدفاع عن المظلومين وتقديم صورة الأخلاق الإسلامية.

ثامناً: الإعداد وقيمة القوة والجهاد:

في سياق بناء الأمة يبرز الإعداد كقيمة أساسية تمكن أي مجتمع من مواجهة التحديات التي تلاقيه، والقوة المطلوب الإعداد لها هي القوة العادلة التي تحمل في طياتها الرحمة والهدف الأسمى في حماية الحق وأهله، وهي مجموعة الإمكانات والقدرات العسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية التي تضمن وضع حد لأي عدوان محتمل، وتوفر الأمن ودعم مسار التنمية والبناء.

وهو أمر الله عز وجل لهذه الأمة، فيقول تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال 60)، فالقوة تحمي أي عملية سلمية، وتمنع الحروب.

 والجهاد فرض على الأمة وقدر لها باعتبارها الأمة الخاتمة والمطلوب منها حماية كافة المواثيق الأخلاقية ومنها حماية حقوق الفقراء والمستضعفين، فالإعداد فريضة، طالما أن الجهاد لا يقوم بغيرها.

والإعداد للقوة له أبعاد متعددة، يبدأ بالإعداد القيمي والأخلاقي كترسيخ قيم التضامن والمسؤولية والعدالة وجهاد النفس، ومنها الإعداد البدني، بتأهيل القدرات الدفاعية والأمنية والهجومية، ومنها الإعداد الاقتصادي، فالفقر ليس مقبولاً فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» (أخرجه مسلم)، ومنه الإعداد الاجتماعي والنفسي.

وبهذا، فإن السيرة النبوية جديرة بأن تعير الأمة لسالف عهدها من قوة ومجد وعدل ورحمة وتكافل وريادة حضارية، والأمر ليس مستحيلاً، وإنما هو فقط يحتاج لإرادة صادقة من أبنائها المخلصين السائرين على منهاج نبيهم صلى الله عليه وسلم.




_____________________

(1) السيرة النبوية، ابن هشام.

(2) ابن كثير، البداية والنهاية.

(3) السيرة النبوية، د. راغب السرجاني.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة