من الانقسام إلى الوئام.. كيف يعالج التسامح أزمة الاستقطاب المجتمعي؟

تمر البشرية اليوم بعمليات انقسام فكري
وسياسي واجتماعي غير مسبوق ليصبح معه التسامح أكبر من كونه مجرد قيمة أخلاقية يجب
فرضها على الجميع كي تعيش البشرية عامة، وبلاد المسلمين خاصة في سلام واستقرار،
ويصبح حاجة إنسانية ملحة، ولا يتوقف عند كونه مجرد موقف شخصي، بل تخطى ذلك ليصير
منظومة قيمية تتيح للأفراد والجماعات العيش المشترك رغم اختلافاتهم، وتحد من
النزاعات التي يغذيها الاستقطاب، فالإنسانية لا تزهر إلا حين يفسح المجال للتعددية
وقبول الآخر، سواء في المجتمعات المختلفة، أو المجتمع الواحد
مفهوم التسامح
اتسع مصطلح التسامح عند العرب ليشمل: الوفاق،
والمسامحة، والتسالم، والعدل، والتفهّم، والتحابّ(1)، وأما في المعاجم
الإنجليزية، فإن كلمة التسامح تعني القدرة على تحمل المشقة والألم، كما يعني
القدرة على الاعتراف بمعتقدات وممارسات الآخرين واحترامها، وقبول الآخرين
وممارساتهم وسماتهم المتباينة(2).
وأما بالنسبة للمنظمات الدولية اليوم،
فتعرف منظمة «يونسكو» التسامح بأنه الاحترام والقبول والاعتراف بالتنوع الثري بين
ثقافات العالم، واحترام الأشكال المتباينة في التعبير، وتقدير الصفات الإنسانية
لدينا، ويتعزز التسامح بالمعرفة والانفتاح والتواصل وحرية الفكر والضمير والمعتقد،
حيث إن التسامح هو الانسجام في سياق التباين، وهو ليس واجبًا أخلاقيًا فقط، وإنما
هو أيضًا التزام سياسي وقانوني، وفضيلة تسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة
الحرب(3).
ومن ثم، فإن التسامح يعد فضيلة وضرورة
أخلاقية وإنسانية واجتماعية، خاصة في المجتمعات التي تتسم بالتعددية الفكرية
والدينية، ولذلك فإن وجود التسامح لا يعد ضرورة لازمة للمجتمعات التي تعاني من
نزاعات أو صراعات فحسب، بل إن وجوده يعد ضرورة لازمة لكل المجتمعات حتى في أوقات
السلم عندما يكون المجتمع ذا مكونات اجتماعية متباينة(4)، والتسامح لا
يعني الذوبان أو التخلي عن القناعات، بل القدرة على احترام الاختلاف.
التسامح في التراث الإسلامي
ككل القيم السامية والنبيلة، لم تزدهر
قيمة التسامح وتطبق بين الناس إلا في العصور الحضارية، وعلى سبيل المثال لم نجد
حضارة اهتمت بهذه القيمة مثل الحضارة الإسلامية خاصة في عصورها القوية، ويظهر ذلك
في مثل قوله تعالى واصفاً حال المسلمين: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أولئك لَهُمْ عُقْبَى
الدَّارِ) (الرعد: 22).
والموقف الأعظم في يوم «فتح مكة»، حين
خضعت قريش برجالها ونسائها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخل البلاد
فاتحاً، حيث قام صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة يقول: «لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ
الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ..»، إلى أن قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ
أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟»، قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ،
قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»(5).
ومن أمثلة التسامح كذلك في دولة المدينة
المنورة ما جاء في قصة وفد نجران، حيث أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد،
ولما حان وقت صلاتهم (وهم نصارى) سمح لهم بالصلاة في المسجد، فكانوا يصلون في جانب
منه، ولما حاوروه، حاورهم بسعة صدر، وجادلهم بالتي هي أحسن.
الاستقطاب المجتمعي.. جذوره وأخطاره
الاستقطاب المجتمعي يعنى تفرق المجتمع في
مجموعات مختلفة تتضارب مصالحها الخاصة فيما بينها، فتتبنى كل مجموعة فكرة ما
وتحاول انتزاع المناصرين لها على حساب الفئات الأخرى، وذلك بطرق مشروعة أو غير
مشروعة؛ تلك الانقسامات قد تكون لأسباب اجتماعية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو
سياسية.
والاستقطاب ليس ظاهرة حديثة، لكنه ازداد
تعمقاً وتضاعفت آثاره السلبية مع نشاط وسائل الإعلام الحديثة وانتشار وسائل
التواصل؛ فساهمت كل تلك الظواهر في أن يصنع الاستقطاب حالة من فقدان الثقة داخل
المجتمع، وتضاؤل فرص الحوار، بل والتحارب في معظم الأحيان.
التسامح كآلية لمواجهة الاستقطاب
والتسامح هنا ليس مجرد فضيلة شخصية، بل
أداة اجتماعية وسياسية لمواجهة الانقسام، فهو يتيح مساحة للحوار، ويقلل من شيطنة
الآخر، ويعيد الاعتبار للإنسانية المشتركة، فيقوم التسامح على تقليل الصراعات
والتوترات من خلال الروابط الروحية والمعنوية بين الأفراد والجماعات؛ ما يقلل من
الانقسامات.
فعلى سبيل المثل، يمكن البحث عن القضايا
الأممية المشتركة وهي كثيرة، فعلى الساحة العربية والإسلامية توجد الكثير من
العوامل المشتركة بين طوائف الأمة على الأقل يمكن أن تجمعها في الوقت الحاضر
لإنهاء حالة الصراع القائم لتقوية ظهر المقاومة من ناحية، ومن ناحية أخرى تقوية
ظهر الأمة في مواجهة عدوها الخارجي.
كما يعزز التسامح مبدأ الثقة والاحترام
المتبادل مما يسمح بتجاوز الخلافات الثانوية، وقبول الآخر لتضييق حدة الخلاف
والاختلاف؛ ما ينبني عليه بناء أرضية مشتركة لخلق مساحة من المصالح الجامعة لا
المؤدية للمزيد من الفرقة والتشرذم؛ ما يعزز التعايش السلمي بين الفئات التي كانت
دوماً متناحرة.
دور التربية في ترسيخ قيمة التسامح
الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام
مؤسسات قادرة على تكوين ثقافة التسامح، فالتعليم القائم على الحوار وتقبل الآخر
يخفف من جذور الكراهية، ويمنح الأجيال المتعاقبة أدوات للتعامل مع الخلاف، ومن
الوسائل التربوية التي يجب استخدامها لغرس قيمة التسامح داخل النشء، أن تتضمن
المناهج التربوية والدراسية؛ ما يعزز تلك القيمة حول المذاهب المختلفة، وبدلاً من
عقيدة التصادم، تتكون عقيدة النقاش والنقد البناء وتصحيح المفاهيم بالحسنى، وتنمية
مهارات التفكير النقدي الأخلاقي، ولا يجب إغفال دور المعلم والمربي في كونه قدوة
عملية للطلاب والمربين في احترام الآخر.
التسامح والدين.. معبر آمن
ومن المفارقة العجيبة أن تجد المختلفين
والمتعاملين بالعنف من أجل خلاف فرعي، يدعون أن ذلك من أجل الدين، بينما الدين
نفسه يدعو إلى التسامح واعتماد مبدأ الدفع بالتي هي أحسن، فقال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصِّلت).
دور المؤسسات والمجتمع في ترسيخ قيمة التسامح
ويقع على عاتق المؤسسات الدينية
والمجتمعية العبء الأكبر في ترسيخ ثقافة التسامح وقبول الآخر مثل تجمعات علماء
المسلمين والمؤسسات التعليمية الإسلامية، وذلك عبر الحوار والتبادل الفكري والحوار
بين المذاهب، مع قيام العلماء بالتوجيه الأخلاقي والعلمي لمكافحة أشكال التطرف
الفكري وبناء جسور السلام لتهدئة الخلافات الداخلية، وتحويلها للتعاون فيما اتفقوا
عليه، وخاصة في القضايا الكبرى.
وأما المؤسسات الاجتماعية فيتمحور دورها
في ترسيخ مبادئ المواطنة العامة، فالجميع مسلمون ما لم تظهر اختلاقات جوهرية في
العقيدة، والجميع متساوون في الحقوق والواجبات دون تمييز عنصري أو مذهبي.
ومن الجيد أن المجتمع الإسلامي مجتمع
متنوع الثقافات، ويحترم الممارسات المختلفة طالما لا تخرج به عن أصل الثقافة
الإسلامية العامة والخلق والسلوك الإسلامي الذي لا يهدر منظومة القيم الإسلامية،
ولا يشوه من الصورة العامة للمجتمع المسلم.
________________
(1) ناجية الوريمي (10/ 11)، 2016م.
(2) Soukhanov,
Anne 1992: 7481.
(3) Unesco,
1995: 71.
(4) علي مراد، وفاتن رزاق 1:2012.
(5) سيرة ابن هشام (2/ 412).
(6) تفسير القرآن العظيم لابن كثير.