من الأب إلى الابن.. قصة الأول على الدفعة

في قرية بسيطة من قرى الريف المصري، حيث
صفاء القلوب وبساطة الحياة، جلس رجل يتأمل ورقة بين يديه، يدنوها ختم أزرق اللون،
هي ثمرة أكثر من ربع قرن من الجد والسهر والتعب؛ إنها شهادة الليسانس، لكن بدلاً
من أن يحتفي بها، مزّقها ومضى في سبيله، ليشدّ الرحال إلى المملكة العربية السعودية.
وهناك، تلوّنت أيّامه بين مهنة وأخرى؛
نجارًا تارة، وسباكًا أخرى، وبنّاء ثالثة، ورغم مشقة هذه الأعمال على جسده، فإنها
أهون عنده من أن يعمل بشهادته التي رأى بين سطورها إثمًا، وبين حروفها كذبًا
وتدليسًا.
ومرت الأعوام ثقيلة حتى جاء يوم مختلف؛
يومٌ يقطف فيه ثمرة جهدٍ آخر، حين استطاع ابنه الأكبر أن ينهي مسيرته الجامعية
متفوقًا، وحصل على المركز الأول على دفعته بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، غير أن
فرحة الابن بهذا الإنجاز ظلّت منقوصة، إذ كان الأب الذي ضحّى ومزّق شهادته قد رحل
عن الدنيا قبل أكثر من 10 أعوام، ليبقى تفوّق الابن شاهدًا على أن بذور الجد لا
تضيع وإن غاب الزارع.
فما حكاية هذا الأب الذي مزّق شهادته
الجامعية؟ ولماذا فعل ذلك؟ وكيف استطاع ابنه أن يكون الأول على الدفعة،؟وما الدروس
المستفادة من هذه القصة؟
نجاح الابن من تقوى الأب
بعض الآباء يعتقد أنه وحده من يجني ثمرة
تقواه وورعه وخوفه من الله تعالى، إلا أن الله أخبرنا أن ثمرة هذه الأعمال تعود
على الذرية كما تعود على الآباء أنفسهم، ولذا قال تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا) (النساء: 9).
وهذا ما فعله الرجل الذي مزق شهادته، كان
يراقب الله في كل قول وعمل، فحينما تخرج في كلية الحقوق وذهب إلى المحكمة للدفاع
عن أول قضية له؛ وجد من الكذب والمراوغة وتزييف الحقائق وقول الزور ما دفعه
للتنازل عن سِني جده واجتهاده، ورغم قلة الحاصلين على الشهادة الجامعية آنذاك،
وتميزهم في الوسط الاجتماعي، ووفرة فرص العمل المميزة لهم؛ فإنه قام بتمزيق
الشهادة وبرّأ نفسه منها خوفًا من الوقوع في المعصية، وسرعان ما سافر خارج بلاده باحثًا
عن لقمة عيش ترضي ربه، وتطمئن ضميره، وتكفي ذريته مؤونة السؤال والحاجة.
ماذا زرعت في أولادك؟
إن هذا الأب الذي سكنت التقوى قلبه ما
كان ليزرع في أولاده إلا الخوف من الله تعالى، وأن يأخذ بأيديهم إلى المساجد وحلقات العلم، وعلمهم معنى الإخلاص، ومراقبة الله في كل صغيرة وكبيرة، وأنه من سلك
طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا للجنة، ناهيك عن الصدق، والورع،
ومساعدة الآخرين، وأن لكل إنسان رسالة اصطفاه الله لها لا بد أن يؤديها على أكمل
وجه، فما كان من الابن إلا أن يمضي في الطريق الذي خطّه له والده قبل رحيله، ورغم
صغر سنه؛ إذ لم يتجاوز العاشرة، أخذ على نفسه عهدًا أن يحقق ما كان يتمناه له
والده.. وأنت؛ فماذا غرست في أبنائك؟
الجميع يسقط لكن القليل من ينهض
أخذ الابن على عاتقه رسالة أبيه، فكان
محبًا للعلم مقدرًا للعلماء، وأخذ يرتقي في دراسته عامًا بعد آخر، ودرجة تلو أخرى،
لكن الناجح يستحيل أن يكون أبدياً، فالكل يسقط، لكن العبرة الحقيقية فيمن يستطيع
النهوض ومواصلة المسير.
ففي مرحلة المراهقة، انشغل الابن باللهو
واللعب، لا سيما وأن صحبته آنذاك لم تبالِ بالعلم والدراسة، ومنذ ذلك الحين بدأ
يتراجع عن تفوقه شيئًا فشيئاً، وبدأت عينه تسقط عن القمة دون أن يشعر، وبعد انتهاء
الفصل الدراسي الأول للسنة الأولى بالمرحلة الثانوية سمع الابن خبر رسوبه في إحدى
المواد لأول مرة في حياته!
اللجوء إلى الله
حينما سمع الشاب خبر رسوبه، ما كان ليفر
إلا إلى المكان الذي اعتاد والده أن يأخذه إليه؛ «المسجد»، ويخبره أن صاحب هذا
المكان كريم، إذا سألته أعطاك، وإن كنت في محنة نجاك، فوضع الشاب قدمه اليمنى في
المسجد وهو يردد الكلمات التي ورثها من والده، فتوضأ وصلى ثم اعترف بتقصيره، وتضرع
إلى الله تعالى، وأخبره أنه سيرجع إلى الطريق الصحيح، وأنه سيعاود التفوق
والاجتهاد، ولن يقصر في طاعته مجددًا.
الصاحب ساحب
وقبل أن يخرج الشاب من المسجد تعهد أن
ينسلخ من صحبة السوء، وأن يبحث عن صحبة تأخذ بيده إلى التفوق، وتشجعه على الجد
والاجتهاد، وسرعان ما وجد نفسه بين صحبة أخرى، يحفها الورع والخوف من الله تعالى،
يسودها التعاون والمحبة، تحكمها النصيحة والكلمة الطيبة، تجمعهم الأحلام
والطموحات، كلما وهن عزم فردٍ منهم، حمله الباقون، وكأنهم على عهدٍ واحد؛ نصل
سويًا أو لا نكون.
الدعاء أول قواعد النجاح
بعدما اشتدت عزيمة هذا الشاب، وقويت
قدماه في طريق النجاح والتفوق، وصل -ومعه أصحابه- إلى أعلى الدرجات في نهاية
المرحلة الثانوية، ودخل المرحلة الجامعية، هذه المرحلة التي التحق بها ولا يفقه
شيئًا عن طبيعتها، ولا طرق التفوق فيها التي تختلف تمامًا عن المراحل السابقة، إلا
أنه لم يصنع إلا شيئًا واحدًا منذ ولوج هذه المرحلة؛ إنه الدعاء! لم تخلُ صلاته
يوم من قول: «اللهم إني أسألك أن تجعلني الأول على الدفعة».
وبجانب دعائه الدائم، كان يجتهد –قدر
المستطاع– في مذاكرته، حريصاً على حضور محاضراته، ينتقي صحبته بعناية شديدة، ولم
ينسَ يومًا وصية والده له؛ أن يلازم النجاح والتفوق وأن يراقب الله في كل حركاته
وسكناته.
ليس من الصعب الوصول للقمة لكن من الصعب
الحفاظ عليها
بعد انتهاء العام الجامعي الأول ظهرت
النتيجة، وإذ بهذا الشاب الأول على الدفعة بأكملها، حينها لم تصدق عيناه ما ترى،
ولم تستوعب أذناه ما تسمع، لكن قلبه كان واثقًا مطمئنًا أن له رباً قريباً مجيباً،
إن رأى من عبده قليلاً من الجد، كافأه بكثير من العطاء، وكان الشاب على يقين أن
حفاظه على القمة أصعب بكثير من الوصول إليها، ولذا ضاعف جهوده، وكرّس دعاءه، وعلم
أن المسؤولية تضاعفت، لا سيما وأن أحلام أسرته الآن باتت معلقة على تمام هذا
النجاح.
مساعدة الآخرين لن تنقصك بل تزيدك
استمر هذا الشاب خلال مرحلته الجامعية
وهو يتأرجح ما بين إنجاز وآخر، فتارة يكون الأول على الدفعة وأخرى يسبقه غيره
بدرجات يسيرة، فما يزيده ذلك إلا اجتهادًا ودعاءً بألا يخيب ظن أسرته فيه، ورغم
هذه الضغوطات التي شكلت له في بعض الأحيان صراعًا مستمرًا للحفاظ على القمة، فإنه
كان دائم النصح للغير، يساعدهم كلما طلبوا المساعدة، ولم يدخر يومًا جهدًا أو
معلومةً يمكن أن يفيد بها غيره، لأن والده زرع فيه أن مساعدة الآخرين لن تنقص
رزقه، بل تزيده وتنميه.
لا تنشغل بالنتيجة ما دمت تسعى
أكمل الشاب مرحلته الجامعية وهو منشغل
بعمله واجتهاده؛ لا يقلق من النتيجة لأنها بيد الله تعالى، ولا يشغل باله بالغد
لأن الله تكفّل به، لم يحزن إلا على ساعة ضاعت بلا فائدة، أو مذاكرة لم تنجز كما
ينبغي، أو طاعة انشغل عنها دون يشعر، وكلما سهر واجتهد؛ كان على يقين أن الجزاء
بقدر التعب، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين، وهكذا توّج الله جهده، وأثمر غرس
والده الطيب، فكان التخرج بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، متصدّرًا دفعته.
فلتكن هذه القصة عبرة للآباء أن يغرسوا
طيبًا في أبنائهم، وللأبناء أن يواصلوا حتى يؤتوا الثمار التي تبهج عيون آبائهم.
انظر أيضًا: 7 نصائح لدخول الجامعة & خطط عملية لمذاكرة مبدعة