منع الترادف وأثره في فهم القرآن الكريم

محمد الحداد

29 سبتمبر 2025

67

لا أظن أن مدخل مقال قد يحوي ذكر شيء ولو بسيط في شرف اللغة العربية وسموها على سائر اللغات، ولكن يكفينا من ذلك القول: إن فقه هذه اللغة المدخل الأقصر والأهم في فهم كتاب الله المجيد، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).

وإن من العناية بفقه اللغة العربية دراسة علومها وقضاياها وإمعان النظر فيها، ومن تلك القضايا: الترادف، الذي كان محط بحث ونظر وتأمل منذ قرون الإسلام الأولى، وذلك لعظيم أثره في فهم اللغة عمومًا والقرآن خصوصًا، وهذه كلمات عن معنى الترادف، والموازنة بين المثبتين له والمانعين، وأثر منع الترادف في فهم القرآن الكريم.

تعريف الترادف

الترادف لغةً: التتابع، والرديف: الذي يرادفك، وترادف الشيء: تبع بعضه بعضاً. (مقاييس اللغة لابن فارس 2/ 503)، واصطلاحاً: هو ما اتحد معناه واختلف لفظه، فهو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. (المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي 1/ 316).

وإن شئنا قلنا: إن الترادف هو تساوٍ بين لفظتين حتى ليصح الاستغناء بأحدهما عن الأخرى، ومع سعة مفردات اللغة العربية -إن صحت تسميتها مفردات- التي لا يتصورها الكثيرون؛ يسهل التعبير بلفظة عن أخرى عند المثبتين للترادف بلا أدنى عتب، ويقف التحدي أمام المنكرين للترادف إن أرادوا سمو البلاغة ودقة المعاني في اختيار اللفظة المناسبة للمعنى المراد في كل موضع لذكرها.

ولتصور سعة الأمر نشير إلى ما ذكره بعض اللغويين -مع الجزم بأن الأمر أوسع- من أن في لغة العرب للسنة 24 اسمًا، وللنور 21 اسمًا، وللظــلام 52 اسمًا، وللشمس 29 اسمًا، وللسحــاب 50، وللمطــر 64، وللبئر 88، وللمــاء 170 اسمـًا، وللبن 13 اسمًا، وللعسل نحــو ذلك، وللخمر 100 اسم، وللأسد 350 اسمًا، وللحية 100 اسم، ومثل ذلك للجمل، أما الناقة فأسماؤها 255.

وقِسْ على ذلك أسماء الثور والفرس والحمــار، وغيرهــا من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسيف والرمح وغيرهمــا، ناهيك بمترادفات الصفات، فعندهم للطويل 91 لفظًا، وللقصير 160 لفظًا، وغير ذلك. (يراجَع تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان، ص45)، ومثل ذلك مما يبعد إحصاؤه، بل يستحيل، وقد قال بذلك غير واحد من أهل العلم، كالشافعي، قال: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي» (الرسالة، ص42).

الخلاف في وجود الترادف ومنعه

وقد وقع الخلاف بين اللغويين مبكرًا في إثبات الترادف ومنعه.

فمن المثبتين للترادف: سيبويه، والأصمعي، وأبو الحسن الرماني، وابن خالويه، وحمزة بن حمزة الأصفهاني، والفيروزآبادي، والتهانوي، وغيرهم.

ومن حججهم أنه لو كان لكل لفظة معنى غير معنى الأخرى لما أمكنَ أن نعبِّر عن شيء بغير عبارته، ولما أمكن للمتكلم أن يأتي بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيدًا ومبالغةً، وأنه من الصعوبة بمكان تتبع ما حصل في الماضي من استخدام لفظة تدل على معنى ما في مكان ما أو على صفة فيه، فضلًا عن الجزم باختلاف دلالتها في الوضع اللغوي.

ومن المانعين للترادف: ثعلب، وابن درستويه، وابن فارس، وأبو علي الفارسي، وأبو هلال العسكري، والبيضاوي، وغيرهم، ومن حججهم على المنع أنه لا يجوز أن يختلفَ اللفظ والمعنى واحد لأنّ في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى، ففي قعد -مثلًا- معنىً ليس في جلس، وأن واضع اللغة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد، فإن قلنا بإثبات الترادف فلا فائدة تعود على المعاني من تعدد الألفاظ.

عن الموازنة بين القولين

وفي الترجيح بين القولين كلام كثير، يرجع بعضه إلى نشأة اللغة، فلا شك بأن من يقول بأن أصل اللغة سماوي -فضلًا عمن يخص اللغة العربية تحديدًا بذلك- لا يستسيغ مع هذا القول إثبات الترادف، ويرجع بعضه الآخر إلى معنى الوضع اللغوي، فالقائلون بتطور اللغة على أي قدر كان سينفتح أمامهم أبوابًا وراء أبواب في تلمس أثر الترادف سواء في إثباته أو منعه، ولعل بعض الخلاف يكمن سببه في تحديد معنى الترادف، هل هو تساوٍ تام بين كلمتين؛ وهذا ما يستبعده كثيرون حتى من المثبتين، أم هو اتحاد في بعض المعنى وإن غُمّ على المرء تحديد الفرق.

ولا نعدم من ذلك القول بمنع الترادف ولو بقدرٍ، وهذا ما سيظهر أثره جليًا في فقه الألفاظ الشرعية لا سيما في القرآن الكريم، ولا يخالف في ذلك المثبتون للترادف، فلا يمنع أكثرهم تفضيل ألفاظ عن ألفاظ ولو ترادفت، وتقديم كلمة على كلمة في سياق ما والجزم بأن ذلك من الفصاحة التي تؤول إلى سمو البلاغة، ولهذا فلا ضير عند الطرفين من تلمس أثر تلك الفروق في كلمات القرآن الكريم.

نماذج من أثر منع الترادف في القرآن

1- الفرق بين الثواء والمكث: الثواء هو الإقامة، قال الله تعالى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا) (الأنعام: 128)، والمكث هو الانتظار والأناة، قال الله تعالى: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (النمل: 22).

2- الفرق بين الحجرة والغرفة: الحجرة قسم من البيت، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات: 4)، والغرفة ما يُبنى أعلى البيت، قال الله تعالى: (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (الزمر: 20).

3- الفرق بين الزواج والنكاح: الزواج يستعمل لما بعد حدوث العقد والدخول، قال الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) (الأحزاب: 37)، أما النكاح فهو إرادة الزواج والرغبة فيه؛ قال الله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) (القصص: 27).

4- الفرق بين السعي والسير: السعي التصرف في كل عمل، قال الله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) (النجم: 39)، أما السير فهو الذهاب، قال الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) (القصص: 29).

5- الفرق بين الشكر والامتنان: الشكر الاعتراف بالإحسان، قال الله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13)، أما الامتنان فهو تعظيم الإحسان وأن يُبدأ فيه ويُعاد، قال الله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17).

ومثل ذلك كثير في القرآن مما يورث فهمه وتدبره عبودية خاصة لأهل العلم به.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة