لماذا فضَّل الله أمة الإسلام بيوم الجمعة؟

ما من يومٍ يُطلّ على الدنيا إلا وله قدرٌ في ميزان الله، ولكنّ يوم الجمعة بقي متفرّدًا بخصيصةٍ لا تضاهيها سائر الأيام، يومٌ تفيض فيه الرحمات، وتتنزل البركات وتستجاب الدعوات، يجتمع فيه الخلق على كلمة التوحيد، وترتفع فيه الأصوات بالذكر.

ومع أن الأمم السابقة عُرضت عليها هذه المنّة، فإنها آثرت غيرها، فكان هذا اليوم العظيم من نصيب الأمة الخاتمة، جزاءً لصفائها في العقيدة، وصدقها في الاتباع، وكأن الله أراد أن يكون يوم الجمعة شهادة تاريخية على مكانة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بين الأمم.

ما فضل يوم الجمعة؟ وما خصائصه؟

1- خير يوم طلعت عليه الشمس.. فيه الخلق والابتداء والختم والانتهاء:

روى مسلم في صحيحه عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ‌يَوْمُ ‌الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي ‌يَوْمِ ‌الْجُمُعَةِ».

فيوم الجمعة يحمل ذكرى البداية والنهاية، وكأنها تذكيرٌ أسبوعيٌّ بمسيرة الإنسان من الخلق إلى البعث، لتبقى القلوب موصولة بخالقها لا بالغفلة عن مصيرها.

قال أبو بكر بن العربي: الجميع من الفضائل وخروج آدم من الجنة ‌هو ‌سبب ‌وجود ‌الذرية وهذا النسل العظيم ووجود الرسل والأنبياء والصالحين والأولياء، ولم يخرج منها طرداً، بل لقضاء أوطار (حاجات)، ثم يعود إليها، وأما قيام الساعة فسبب لتعجيل جزاء الأنبياء والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كرامتهم وشرفهم، وقال النووي: وفي هذا الحديث فضيلة يوم الجمعة ومزيته على سائر الأيام(1).

2- يوم الاجتماع والاتحاد:

سُمّي الجمعة من «الاجتماع»؛ لأن الله شرّف فيه المسلمين بالاجتماع في المساجد، وترك الفرقة والانشغال بالدنيا، استجابة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ ‌الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة: 9)، ففي الجمعة يجتمع المسلمون في المساجد، للعبادة والوحدة والسكينة والقوة، إنها شعيرة تحفظ للأمة وحدتها وعزتها.

3- في يوم الجمعة ساعة إجابة:

روى البخاري، ومسلم، عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «فِيهِ ‌سَاعَةٌ ‌لَا ‌يُوَافِقُهَا ‌عَبْدٌ ‌مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، فهذه منحة ربانية متجددة لأمةٍ أكرمها الله بباب دعاءٍ مفتوحٍ كل جمعة.

وقد تنوعت آراء العلماء في تحديد هذه الساعة، حيث رأى البعض أنها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: من العصر إلى غروب الشمس، وقيل: وقتها إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، وقيل: من الزوال إلى غروب الشمس، وقيل: هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وقيل: هي آخر ساعة من ساعات النهار، وقيل: هي تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة، وقيل: هي مخفية في جميع اليوم.

والحكمة في إخفائها: حث الناس على الاجتهاد في الطلب واستيعاب الوقت بالعبادة، وأجمل الأقوال في ذلك قول ابن المنير: إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، وَلَوْ بَيَّنَ لَاتَّكَلَ النَّاسُ على ذلك وتركوا ما عداها؛ فالعجب بعد ذلك ‌ممن ‌يجتهد ‌في ‌طلب ‌تحديدها(2).

لماذا اختص الله أمة الإسلام بيوم الجمعة؟

هدى الله تعالى أمة الإسلام إلى يوم الجمعة، فكانت من أعظم الهدايات والهبات، فقد روى البخاري، ومسلم، عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتِيَتِ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْنَا، هَدَانَا اللهُ لَهُ، ‌فَالنَّاسُ ‌لَنَا ‌فِيهِ ‌تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».

ففي قوله: «نحن الآخرون»؛ يعني في الزمان والوجود، وقوله: «نحن السابقون»؛ يعني بالفضل ودخول الجنة، حيث إن أمة الإسلام تدخل الجنة قبل سائر الأمم.

فهذا بيان لفضل الأمة الإسلامية وشرفها على سائر الأمم، ثم شرع صلى الله عليه وسلم يبين أن كل أمة من أهل الكتاب السابقين كانت لهم أيام اختاروها، وقد اختار الله لنا يوم الجمعة، أما اليهود فالسبت، والنصارى فالأحد.

ومما يدل على هذا ما رواه مسلم عَنْ ‌حُذَيْفَةَ أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا، ‌فَهَدَانَا ‌اللهُ ‌لِيَوْمِ ‌الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ».

ما الأبعاد التربوية والدروس المستفادة من يوم الجمعة؟

1- تجديد الصلة بالله أسبوعيًا: كل جمعة محطة إيمانية تمحو ذنوب الأسبوع، ففي صحيح مسلم عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، ‌وَالْجُمُعَةُ ‌إِلَى ‌الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ».

2- ترسيخ روح الجماعة: صلاة الجمعة تربي المسلم على الاجتماع والإنصات والالتزام بالنظام، فيكون المسجد رمزًا للوحدة بعد التفرق.

3- تحريك الوعي الديني والاجتماعي: تعد خطبة الجمعة منبراً لتصحيح المفاهيم، وبناء الوعي، واستنهاض الهمم.

4- تذكير الأمة برسالتها العالمية: الجمعة ليست مجرد شعيرة، وإنما عنوان لقيادة الأمة في الخير، كما قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143).




______________________

(1) شرح النووي على مسلم (6/ 142).

(2) فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (2/ 422).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة