معبد الإلحاد يهتز (9)
لماذا خلق الله المجرات البعيدة؟!

إنّ الكون في التصور القرآني ليس فراغًا عبثيًّا ولا مسرحًا عشوائيًّا، بل آية كبرى تشهد على
وحدانية الله تعالى وإحكام صنعه، وإذا كان المؤمن يقرأ في كل نجم ومجرة دليلاً على
القدرة، فإنّ الملحد ينكر بعناد ما تشهد به الفطرة وما تصرح به العقول السليمة.
إنّ ادعاء هؤلاء
أن اتساع الكون أو خفاء بعض أجزائه دليل على عبثية الخلق لا يعكس إلا قصورًا في
عقولهم وضيقًا في قلوبهم، فالحقائق العلمية الحديثة لم تفضِ إلا إلى مزيد من
الانكشاف لعظمة النظام الكوني الذي أبدعه بديع السماوات والأرض، وهو ما ينسف أوهام
الإلحاد من جذورها.
ومن هنا تأتي
ضرورة تفنيد شبهاتهم وكشف عوار منطقهم الذي يزعم الحكمة في الفوضى ويغفل عن بصمة
الخالق عزَّ وجل في كل ذرة من هذا الوجود.
نص الشبهة
«بما أن الله
خلق الكون والنجوم والكواكب والقمر للإنسان ليكونوا زينة كما جاء في القرآن،
فلماذا إذن خلق تلك المجرات البعيدة التي لا يستطيع الإنسان رؤيتها؟ ولماذا خلق
هذا الكون العظيم الذي لا نستطيع إدراكه بأبصارنا؟ ولماذا توجد تلك الكواكب
والمذنبات والنجوم التي تموت ثم تولد من جديد والإنسان لا يراها ولا يعرفها؟
أما الكواكب،
فما سبب وجودها إذا كانت لا تصدر ضوءاً فهي ليست زينة ولا يمكن مشاهدتها بالعين
المجردة؟ فلماذا خلقها؟ هل خلق الله زيادات لم يحسب لها حسابًا؟
قد يقول البعض: إن
الله يعلم أننا في يوم من الأيام سنصل إلى درجة من العلم تجعلنا نرى المجرات
والكواكب البعيدة ونتفكر في عظمة الله، نقول: وهل علم الله أنه بسبب هذا التقدم
واكتشاف هذه المجرات والكون كان سببًا في ترك الإيمان وإنكار الله نفسه؟
فمعظم علماء
فيزياء الفلك لا يؤمنون بوجود خالق للكون، ضخامة الكون لا تعطينا دليلاً على عظمة
الله، فالشعوب القديمة قد تصورت عظمة الله وهي لم تر إلا ما شاهدته أعينها وما
عرفته حواسها» ا.هـ
الرد على الشبهة
وللرد نقول: هذه
الشبهة في حقيقتها تنبني على تصوّر قاصر لله عز وجل وصفاته، وعلى قياس الخالق على
المخلوق، وعلى إغفال البعد الغائي والوظيفي للكون.
أولاً: هل خلق الله تعالى زيادات بلا حساب؟
هذا السؤال في
أصله إسقاط بشري على مقام الألوهية، الإنسان حين يبني بيتًا قد يضع فيه غرفًا غير
لازمة، أو يبني جدارًا ثم يكتشف أنه زائد، وهذا يقع لأن علمه محدود وقدرته ناقصة.
أما الله عز
وجل، فقد وصف نفسه في القرآن الكريم: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: 2)؛ أي
أن كل ذرة، وكل كوكب، وكل مجرة، بل كل قانون فيزيائي أو كيميائي؛ واقعٌ بتقدير
محكم لا يختل، فإذا عجزنا عن إدراك الحكمة، فهذا لا يعني أنها غير موجودة.
والعلم ذاته
قدّم لنا أمثلة صارخة:
- الزائدة
الدودية كانت تُعتبر عضوًا بلا وظيفة، اليوم يُثبت الطب أنها مخزن للبكتيريا
النافعة وجزء مهم من المناعة.
- الحمض النووي
غير المشفَّر كان يُسمّى «DNA
junk»؛ أي «خردة»،
والآن تبيّن أن له أدوارًا تنظيمية في التعبير الجيني.
فإذا كان العلم
البشري المحدود قد أخطأ في الحكم على بعض وظائف الأعضاء، أفلا يكون من المنطقي أن
نتواضع أمام الله تعالى في حكمنا على أسرار الكون الهائل؟
ثانياً: وظائف النجوم والكواكب في ضوء القرآن الكريم والعلم الحديث:
- النجوم:
القرآن الكريم
ذكر 3 وظائف رئيسة للنجوم:
1- زينة للسماء:
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) (الملك: 5).
2- رجوم
للشياطين: (وَجَعَلْنَاهَا
رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) (الملك: 5).
3- علامات
للاهتداء: (وَعَلَامَاتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل: 16).
لكن هل هذه هي
كل وظائفها؟ قطعًا لا، القرآن الكريم يذكر بعض الحِكم، ويترك المجال للتفكر
والاكتشاف.
- الكواكب
المظلمة:
قد يقول قائل: إذا
كانت الكواكب لا تصدر ضوءًا، فهي ليست زينة، فلماذا خلقها الله عز وجل؟
العلم الحديث
يكشف لنا أن هذه الكواكب المظلمة مثل المشتري، وزحل، تعمل كدرع واقية للأرض،
فجاذبيتها الهائلة تجذب المذنبات والنيازك التي كان يمكن أن تدمر الأرض، وبغيرها
قد لا تكون الحياة ممكنة أصلًا.
- موت النجوم
وولادتها:
انفجار النجوم
(المستعرات العظمى) يبعثر في الفضاء عناصر أساسية للحياة: الكربون، الحديد،
الأكسجين، وجسد الإنسان الذي يحمل الحديد في دمه، والكربون في خلاياه، هو في
الحقيقة نتاج نجوم ميتة، وكأن الله عز وجل جعل الكون يدور في دورة حياة متكاملة
ليُخرِج الإنسان من تراب هذا النظام العظيم.
ثالثاً: ضَخامة الكون.. هل هي ضد الإيمان؟
يزعم الملحد أن ضخامة
الكون لا تدل على عظمة الله عز وجل، بحجة أن الشعوب القديمة آمنت مع أنها لم ترَ
إلا سماء محدودة.
هذه شبهة قائمة
على مغالطة، فالقدماء آمنوا بما رأوه: السماء بنجومها، والليل والنهار، والجبال
والأنهار، وهذه كانت كافية لهم ليدركوا وجود خالق عظيم.
أما نحن اليوم،
نرى أن هذه السماء ليست مكانًا مرتفعًا فقط، بل بحرًا من المجرات التي يعجز العقل
عن حصرها، فهذا يوسّع مفهوم العظمة، لا ينقضه.
العظمة ليست
مرتبطة بالعدد فقط، بل بالدلالة، كما أنك لا تحتاج أن تحصي كل خلية في جسدك لتدرك
أن خالقك حكيم، لكن لو فعلت، لزادك ذلك خشوعًا.
رابعاً: لماذا يكفر بعض علماء الفلك؟
الحقيقة أن
العلم في ذاته لا يقود للإلحاد، الذي يقود إليه هو الفلسفات المسبقة التي يحملها
بعض العلماء:
- ألبرت
آينشتاين لم يكن ملحدًا، بل قال: «كلما ازداد فهمي للكون؛ ازداد يقيني أن هناك قوة
أعظم تحكمه».
- بول ديفيز، عالم
فيزياء بريطاني: يرى أن قوانين الكون المضبوطة بدقة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة.
- فرانك تيبلر:
من منظري «المبدأ الأنثروبي»، يرى أن الكون مصمم ليحتضن الحياة.
إذن، العلم يعكس
ما في القلوب؛ من كان قلبه منفتحًا للحق رأى في العلم آيات الله عز وجل، ومن كان
قلبه مُعرِضًا، جعل من العلم ستارًا لإلحاده.
خامساً: فلسفة الغاية.. لماذا هذا المسرح الكوني الضخم؟
القرآن الكريم
يجيب بوضوح: (وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)؛ فالغاية ليست
أن نُحاط بكل تفاصيل الكون، بل أن نعبد الله تعالى ونتفكر فيما يكشفه لنا من آيات.
الكون أشبه
بمكتبة عظيمة، يقرأ منها كل جيل على قدر طاقته، قد يكتشف جيلٌ شيئًا جديدًا،
فيزداد إيمانًا أو إعراضًا، لكن المشكلة ليست في الكون، بل في القلب الذي ينظر
إليه.
سادساً: أمثلة للملحد:
1- طفل في الصف
الأول يرى مكتبة ضخمة مليئة بكتب لمستويات عليا، فيسأل: لماذا أبي وضع كتبًا لا
أفهمها؟ الجواب: ستفهمها حين تكبر، وكذلك الكون: فيه ما ندركه، وما لم يحن وقت
إدراكه.
2- بيت ضخم قد
يحتوي على أنظمة تهوية وأنابيب وكابلات لا يراها الساكن ولا يعرفها، لكنها تحفظ
حياته وتجعله ينعم بالراحة.
3- لم يكن أحد
يعرف وظيفة آلاف الجينات أو الميكروبات النافعة، اليوم نعرف أنها جزء لا يتجزأ من
وجودنا.
وأخيرًا، إن
ضخامة الكون، وتعقيد قوانينه، ودوراته المدهشة بين موت النجوم وولادتها، وانسجام
القوى الفيزيائية الدقيقة، كل ذلك لا يُشير إلى عبث، بل إلى قصد محكم.
لو كان الكون
أصغر؛ لاتُّهِم الدين بأنه يضيق الأفق، ولو كان أوسع؛ اتُّهِم بأنه عبثي، ففي كل
الأحوال، المشكلة ليست في الكون، بل في زاوية النظر.
والله عز وجل
جعل هذا الكون مرآة للإنسان؛ مَن نظر بعين الإيمان؛ رآه آية تدل على الخالق، ومن
نظر بعين الإعراض؛ جعله ذريعة للإنكار.
إن الغاية
الكبرى من خلقنا أن نعبد الله عز وجل ونتفكر في آياته، لا أن نحيط بكل أسرار الكون؛
قال الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ) (فصلت: 53).
فالكون الفسيح
كله آية، والإنسان المؤمن حين يرفع بصره إلى السماء لا يرى عبثًا ولا زيادات، بل
يرى قدرة الله عز وجل، ويردد في قلبه وعقله وروحه: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 191).