ثمَّ كذَّبوك يا محمد صلى الله عليه وسلم (15)

لماذا أنت هنا؟ وماذا ستقول هناك؟

أسألك: لماذا تُحطِّم قلبك، ولا تجعله كالشمس في نهارك والقمر في ليلك؟!

اجلس بهدوء، وتحقق من أن قلبك يعي ما يردده لسانك.. فأنا أستقرئك.

في ليلة من ليالي العام العاشر من البعثة الشريفة، قيل: إنها ليلة السابع والعشرين(1) من شهر رجب، ذلكم العام المسمى بـ«عام الحزن» لوفاة أبي طالب، ورحيل السيدة خديجة رضي الله عنها بعده بأيام قلَّ عددها واخْتُلِفَ فيه، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم عليهما وجداً شديداً(2)، وبفقدهما فَقَدَ المعين والأنيس، فأسرفت قريش في النَّيْل منه الإسراف كله، فخرج إلى الطائف ربما وجد من يعينه على تبليغ دعوته، وكان من سفهاء الطائف ما كان.

وبحساباتنا نحن، فإن هذه الأحداث، وبهذه الأسباب المتاحة تشي بأن بينه وبين النجاح في أمره من البُعد ما بين المشرق والمغرب، ولكن حساباته الشريفة كانت فحسب ناتجة من إحساسه بالرغبة الملحَّة في نشر دعوة ربه رغم ذلك الألم النفسي الكاثر الذي ألمّ به، وذلك العبء الغامر الذي يرزح(3) تحته.

هصر(4) المشركون خاطره ومشاعره، وكان لا بد له من الحديث إلى غيره، ففزع إلى رحاب ربه يبثه آلامه، ويُفْضي إليه بأحماله، فجبر الجابر عز وجل خاطره جبرًا يليق بعزته وقدرته، وكي يُسَرِّيَ عن نفسه الحساسة كافأه برحلة الإسراء والمعراج، لكأنه تعالى يقول له: أيها الحبيب، لئن ضاقت بك الأرض فإن ملكوتي في السماء يحتفي بك ويرحب، وإني ناصرك وأنف الشدائد من حولك راغم.

فيحدثنا صلى الله عليه وسلم: «أُتِيتُ بالبراق، فركبته، حتى أتيت بيت المقدس، فربطتُه بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء»، فكانت رحلة الإسراء، التي تُعني السير ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

ويكمل صلى الله عليه وسلم: «ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة..»(5).

الحديث طويل، أخبرنا فيه صلى الله عليه وسلم عن لقائه بالأنبياء، وعن الكثير من صور الثواب والعقاب التي رآها، وعن كيفية فرض الصلاة مباشرة ومن غير وسيط، فكانت رحلة المعراج؛ التي تُعني الصعود من المسجد الأقصى إلى السماوات السبع وما فوقها.

وأنكر عليه المشركون قدرته على رحلة الإسراء والمعراج والعودة في نفس الليلة، وتناسوا أن الفاعل هو الله؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير) (الإسراء: 1).

ولئن كان الفعل يتناسب مع قدرة الفاعل، فإن الفاعل هو الله، وراحوا يسألونه دليل صدقه، فطلبوا منه وصف أشياء لم يتثبت منها، ويصف صلى الله عليه وسلم عُسْرَ الأمر وكربته فيقول: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط»(6)، وكان صلى الله عليه وسلم في معية الله، فرفع عز وجل له بيت المقدس إلى مكة، فراح يصف كل شيء يسألونه عنه بدقة، وكان بينهم من سافر إلى بيت المقدس، وخَبَرَ المسجد جيداً.

فقالوا: أما النعت فوالله لقد أصاب! وكانت وجهة الحدث الصحيحة أن قريش ستَـرْشُد للحق، ولكنها شردت عن الرشد والسداد، ولـجَتْ في الباطل والضلال.

وبعد، فإن رحلة الإسراء والمعراج ليست مبالغة مؤرخين، ولا أوهام مسلمين، ولكنها حقيقة وقعت، صُكَّتْ لها آذان المشركين، وجفت حلوقهم من الحديث عنها ومنها.. ثمَّ كذَّبوك يا محمد.

ولكن وعت أذن التاريخ الإسلامي الأمين لحقها وحقيقتها، فتلبث يملأ سمعه النزيه منها، ثم سارع إلى تسجيلها كمعجزة شريفة أرحب من الخاطر والفكرة، وأوسع من المعنى والكلمة، ومن وراء أكثر من 14 قرنًا من عُمر الزمان تطل علينا كل عام لتثير عجبنا، وتجدد إعجابنا، ومن أحداثها تفوح في نفوسنا المتعبة رائحة السكون والأمان، كلما قرأنا عنها أو سمعنا.

 تطل علينا قائلة: إنه قد أُسْرِى بالنبي يقيناً روحًا وجسداً؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)؛ فكلمة العبد تعني الجسد والروح، ولئن كان الإسراء بالروح فحسب لما كانت هناك حاجة للبراق، وهو الدابة التي ركبها صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن كلمة البراق مشتقة من البرق، ولئن كانت القوة تتناسب عكسًا مع الزمن نزولًا على نتائج الحقائق العلمية، بمعنى أنه كلما ازدادت القوة قلَّ الزمن، فإن القوة هناك كانت قوة الله المطلقة؛ لذا استغرقت الرحلة أقل حيز من الزمن، وإذا أهبط الله عز وجل عبدين من السماء هما آدم، وحواء، فما الغرابة في أن يرفع إليها عبدين هما عيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسلام؟

تطل علينا المعجزة طوال العام مدللِّة على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إماماً بالأنبياء لها دلالتان؛ الأولى: أن دين الله واحد، قال صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوةٌ لعَلَّاتٍ(7) دينهم واحد، وأمهاتهم شتَّى»(8).

والثانية: أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة، وأنه لا بد من قيادته للأمم لتفلح في أمرها، لأنه دين الفطرة كما أخبر صلى الله عليه وسلم عندما اختار اللبن دون الخمر لما خيَّره جبريل.

تطل علينا صائحة في المتثاقل عن الصلاة: صلِّ قبل ألَّا تستطيع أن تصلي، أما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى «أناساً تُرْضَخ رؤوسهم بالحجارة»، فسأل جبريل عنهم فأخبره أنهم الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة؟

يا هذا، فُرِضَت الصلاة في السماء دليلاً على رفعتها، وجلال فضلها، وعِظَم قدرها، وأننا أثناء الصلاة ندع شهوات الدنيا ونودعها لأن أرواحنا تعرج إلى هناك، فهي معراجك الخاص إلى الله عز وجل، وإن أقمتها بحقها، وعلى وقتها يرفع عز وجل قدرك.

تطل لائمة لكل مغتاب: أن تُب عن أكل لحوم الناس قبل ألا تستطيع أن تتوب، أما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى «أناساً لهم أظفار من نحاس يخمشون(9) بها وجوههم وصدورهم»، ولما سأل جبريل عنهم أخبره أنهم الذين يأكلون لحوم الناس، ويخوضون في أعراضهم.

تطل موبخة فيمن لا يخرج زكاة ماله: أن أَدِ حق الله في مال الله قبل أن تملأ بطنك بالضريع(10)، ولا تجد ما تقات به غيره، أما رأى صلى الله عليه وسلم «أناساً يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع»، وعندما استفسر من جبريل عن هويَّاتهم، أخبره أنهم الذين لا يؤدون زكاة أموالهم؟

تطل علينا صافعة كل زانٍ: ألا تتوب؟ أما أخبرك حبيبك صلى الله عليه وسلم أنك إن لم تتب سوف تأكل اللحم النتن الخبيث، بينما اللحم الطيب الشهي بين يديك، لأنك تترك الحليلة الطيبة وتلهث خلف الخليلة النتنة، ألا تتقزز؟ أما آن لك أن تعف النتن؟!

تطل علينا المعجزة مرشدة إلى أمانة تبليغ العلم وإن كره الناس، أما سمعت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الإسراء؟ حيث صرَّح صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء والمعراج رغماً عن غرابة حدثها، وكراهة قريش للتصريح بها وتكذيبها؟

تطل علينا المعجزة مترضية عن أبي بكر، وتشدّ آذاننا بقسوة، وتهمس بها في لين: الساعات العسيرة تفرز الرجال، أما صرح سلوكه رضي الله عنه صبيحة ليلة المعجزة بهذا المعنى؟ عندما أطلقها مدوية، ولتبقى على هام الزمان مشرقة: إن كان قال فقد صدق.

تطل علينا ناخسة التنابلة الكسالى: افعلوا شيئاً لدين الله، افعلوا شيئًا لغزة ولـ«الأقصى»، ليس الجهاد أو التضحية بالبندقية فحسب، إنما تتعدد الوسائل، والطامح إلى التضحية لا يعدم الوسيلة، أما استشعرنا بركة الجهاد والتضحية لما أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه رأى أناساً يزرعون يومًا ويحصدون يومًا، ولما استفسر من جبريل عن ذوي هذه الحال المباركة، قال: «هؤلاء هم المنفقون في سبيل الله، يخلف الله عليهم ما أنفقوا».

في ليلة المعجزة الميمونة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الصور، نكتفي بما سقناه لننصت إلى صراخها متسائلة: لماذا لم تتم الرحلة من المسجد الحرام إلى السماء مباشرة؟ وما المغزى من الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أولاً إلى بيت المقدس؟

لبيان أهمية بيت المقدس لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلئن كانت مكة رمزاً للإسلام، فإن بيت المقدس رمز لحال المسلين؛ ضعفاً وقوة، لتمتد يد هذا الاستشفاف التاريخي صافعة ملياري مسلم حول العالم: أُفٍّ لكم وقُبحًا، ما أضعفكم وأبناء القردة والخنازير يفعلون في غزة والقدس اليوم ما يفعلون!

ويسترسل في صراخه: يا غثاء السيل، قويت الأمة أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحَرَّرت بيت المقدس، وتبدلت أحوال الأمة من قوة إلى ضعف فاحْتُلّ بيت المقدس، وقيض الله للأمة قائداً ربانيًا هو صلاح الدين الأيوبي فجمع شملها وحرَّره، وضعفت الأمة في أيامكم المظلمة بذنوبكم فعاد بيت المقدس إلى أسر أحفاد القردة والخنازير.

تطل علينا فاضحة واضحة: افعلوا شيئاً من أجل غزة التي تتشح برائحة الموت ولون الدماء، وتتمتم آسية: لا تحملوا من أجلي سلاحًا، ولكن صلّوا من أجلي، أطلق أدعيتكم، تبرعوا لجبر خاطري.

افعلوا شيئًا من أجل «الأقصى» الذي يقبع جريحاً خزيان، ينزف دماءه وكرامته من دماء وكرامة المسلمين، ويتساءل باكيًا: كيف هان دمي عليكم، إنه من دمائكم؟ كيف هانت كرامتي، إنها من كرامتكم؟

لننصت إلى صوت المعجزة ما بين صراخ وصياح، همس وهتاف، نخس وصفع، لوم وتوبيخ، بيان وإرشاد، وسوف نسترشد منها الكثير المختلط بصوت آهات فلسطين، وأنات «الأقصى».

وفوق رؤوسنا يصول صداها ويجول رنينها: الله عز وجل لا يتخلى عن المؤمنين به، أما ترى كيف رفع بيت المقدس للنبي صلى الله عليه وسلم في حال كربته؟ فكن وفيًّا لقضيتك إذا كنت صاحب قضية، ولا تسمح لأحد أن يصرفك عنها ويحول بينك وبينها، وسر معها ولا تتوقف لتأخذك في طريقها إلى الفردوس.

وإذا لم تكن صاحب قضية، فاسأل نفسك: لماذا أنت هنا؟ وماذا ستقول هناك(11)؟




______________________

(1) اختلف العلماء حول تحديد التاريخ الدقيق لها، ولكن الرأي الأكثر شيوعاً هو أنها وقعت في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب.

(2) حزن عليهما حزنًا شديدًا.

(3) يعاني ويئن.

(4) كسر ودهس.

(5) حديث صحيح، أخرجه مسلم (1/ 145).

(6) المرجع السابق (1/ 156).

(7) أنهم إخوة لأبٍ واحد والمقصود به شرع الله، من أمهات مختلفة والمقصود بهن فروع الشرائع؛ أي أن شرائع الأنبياء متفقة من حيث الأصل، وإن اختلفت من الفروع حسب الأزمان، وحسب العموم والخصوص.

(8) أخرجه أبو داود (4324)، وأحمد (9630) باختلاف يسير، وقال أحمد شاكر في عمدة التفسير (1/ 601): أسانيده صِحَاح.

(9) يخدش بشدة.

(10) نبات أخضر نتن له شوك.

(11) في الدنيا والآخرة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة