كيف نبرهن على محبتنا للنبي ﷺ في حياتنا اليومية؟

رقية محمد

21 سبتمبر 2025

53

في زمان انتشرت فيه السطحية، وأصابت كل شيء في حياة الناس سواء في دينهم ومشاعرهم وقلوبهم وأفكارهم، حد أن عبادة قلبية عظيمة كمحبة النبي صلى الله عليه وسلم يُظن أنها أشعار تُردد وأناشيد يُتغنى بها وحلوى تُؤكل وعصير يُسقى لمحبيه يوم مولده فحسب، تلك النظرة التي تُفرغ العبادة من مضمونها، وإن المحبة عبادة قلبية تدفع الجوارح إلى التزام عملي بالهدي النبوي يظهر في السلوك اليومي، فالمحبة الصادقة تعني الاقتداء، والاقتداء يعني أن نعيش القيم التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ونجعلها نبراسًا يوجّه تعاملاتنا مع أنفسنا والآخرين.

محبة النبي من أصل الإيمان

محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الدين، فهي واجبة بموجب حب الله تعالى وطلب رضاه، ولا يتم إيمان العبد إلا بها، فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجدَ بِهِنَّ طعمَ الإيمانِ، مَن كانَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مِمَّا سواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبُّهُ إلَّا للَّهِ، وأن يَكْرَهَ أن يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ أنقذَهُ اللَّهُ منهُ كما يَكْرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ»(1).

فبقدر محبة الله ورسوله يكون قدر سلامة قلب العبد من الأمراض والأهواء، وعلى أساسه يكون مقدار تذوق قلبه لحلاوة الإيمان، وهذه المحبة ليست أقوالًا فقط، وإنما أقوال وأفعال، وتتجلى تلك المحبة حينما يخالف هوى القلب ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فحينها يواجه بحقيقة ما وقر في قلبه وصدقت عليه جوارحه، فيقدم محاب النبي صلى الله عليه وسلم على الهوى.

الطريق لغرس محبة النبي في القلب

إن مبعث حب النبي صلى الله عليه وسلم معرفة شمائله وصفاته وسيرته وفضله، فهو من أنقذ الله به العباد من النار وعرفهم رسالة ربهم، عن عبدالله بن هشام قال: كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ»، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الآنَ يا عُمَرُ»(2).

لما سألوا عمر عن كيفية تحقيق ذلك، فكان سببه أنه تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم هو منة الله الكبرى، ونعمة الله العظمى، هو السبب في كل هذا الخير الذي وصلوا إليه، فهو أنفع إليه من نفسه، فحبه سبب لحب الله ورضاه وتوفيقه؛ لما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة، وحق للعبد أن يدعو ربه بصدق وإخلاص في أن يرزقه حب نبيه صلى الله عليه وسلم واتباعه، وأن يسعى في مجاهدة النفس على التحقق بحب الله ورسوله وتذوق حلاوة الإيمان بذلك، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).

الدليل على محبته

ومن المعلوم أن المحبة مستورة في القلوب، ولكن من رحمة الله أن يسّر سبل الاستدلال والبرهنة على وجودها من عدمه، ومن البراهين على محبة النبي صلى الله عليه وسلم:

1- اتباعه وتعلم سُنته والأخذ بها:

من أعظم دلائل محبة النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعى المسلم للاقتداء بسُنته في القول والعمل، فالمحبة الصادقة تترجم إلى اتباع عملي يشمل كل أحوال العبد، قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31).

فجعل الاتباع برهان المحبة وسبيل القرب من الله، فالمحب يتمسك بهديه صلى الله عليه وسلم ويُحيي سُنته، ويتخلق بالأخلاق الكريمة، وبقدر ما يحرص المسلم على تطبيق هديه صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية، بقدر ما يكون صادقًا في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدر ما يبتعد عن هديه صلى الله عليه وسلم بقدر ما ينتقص من مقدار محبة الله ورسوله وينتقص بذلك إيمانه.

2- الإكثار من ذكره:

علامات المحبة دوام ذكر المحبوب والحديث عنه واستحضار محاسنه؛ ما يزيد الحب في القلب ويهيج الشوق للمحبوب، كذلك كثرة الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: 56)، وكذلك استحضار فضله على الخلق، وقص سيرته على الناس، والتمثل بمواقفه في الحياة اليومية، كل ذلك يبرهن على وجود المحبة بالقلب ويثبتها ويزيدها، ويكفر السيئات ويزيد الإيمان بالقلب.

3- تمني رؤيته والشوق إليه:

حب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم مظاهر الإيمان، ويتفاوت الناس في مقدار هذه المحبة، وإن السُّنة تحدثت عن أُناس يأتون بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويتمنون رؤيته ولو كان الثمن أهلهم وأموالهم، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مِنْ أشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا، ناسٌ يَكونُونَ بَعْدِي، يَوَدّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ»(3).

فتلك القلوب التي رسخ بها حب الله ورسوله، وعلمت أنها أنفع لها من حبها لنفسها وأهلها ومالها، قد سمت في مدارج الإيمان، وفي هذا الخبر حث للمؤمنين على الوصول لتلك الدرجة والفوز بسلامة القلب.

4- محبة من أحبهم النبي:

إن من علامات محبته التي يجب العناية بها محبة من أحبهم صلى الله عليه وسلم، مثل آل بيته، يقول ابن تيمية: «فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب مراعاتها، فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم»(4).

وكذلك يدخل في جملة من أحب صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، فيدعو المسلم لهم جميعاً، فزيادة عن شرف صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحبه لهم وذكره خيرية القرون الثلاثة الأولى، يأتي فضلهم على الأمة بنقلهم الوحي لمن خلفهم.

5- بغض من كره الله ورسوله:

فبرهان المحبة أن يبغض ويعادي من كره الله ورسوله وعاداهم، ولعظم تلك المسألة فقد جاء القرآن صريحاً في ذكرها في الآية الكريمة: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) (المجادلة: 22)، فالمسلم الحق لا يمكن أن يجمع بين محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومودة من عادى الله ورسوله أو استهزأ بدينه، فالمحبة تقتضي أن يجعل ولاءه لله ورسوله فوق كل ولاء دنيوي أو مصلحة شخصية.

إن برهان محبة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بالاحتفال بذكراه فقط، بل بأن تكون حياة المسلم مرآة تعكس نوره وهديه، فإن الالتزام بسُنته في الأخلاق والعبادات وتربية النشء على سيرته؛ لهو برهان محبته، فالمحبة ليست كلمات تُقال، بل عمل يُترجم، وسلوك يُجسّد، ورسالة نعيشها في كل تفاصيل حياتنا.




________________

(1) صحيح البخاري (16).

(2) صحيح البخاري (6632).

(3) صحيح مسلم (2832).

(4) مجموع الفتاوى (3/ 407).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة