قمم تحت ظلال الدم الفلسطيني واغتيال السيادة!‏

لؤي صوالحة

20 سبتمبر 2025

47

لم يعد الغضب الشعبي العربي بحاجة إلى برهان جديد كي يتيقن أن القمم العربية تحولت إلى مسرح لعجز تاريخي مزمن، لا تصنع قرارًا، ولا تملك إرادة مواجهة، ولا تحمي كرامة، لكن ما جرى في القمة الأخيرة تجاوز حدود الخيبة؛ فقد انعقدت بينما كان الاحتلال «الإسرائيلي» ينفّذ عملية اغتيال في قلب العاصمة القطرية الدوحة، في انتهاك فاضح للسيادة الوطنية وللقانون الدولي، بينما اكتفى النظام العربي الرسمي ببيان هزيل، لا يليق بجسامة الجريمة ولا بدماء الشهداء.

أولًا: من الأمل إلى الانكسار.. الذاكرة التاريخية للقمم العربية:

1- عام 1964م: صوت عبدالناصر وفلسطين محور الأمة: انعقدت أول قمة عربية بدعوة من الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لتوحيد الموقف ضد المشروع الصهيوني، آنذاك، بدا أن الأمة مقبلة على وحدة قرار تاريخية، لكن التباين بين الخطاب والواقع سرعان ما كشف هشاشة البنيان.

2- عام 1967م: الخرطوم و«اللاءات» الثلاث: بعد هزيمة يونيو 1967م التي خسرت فيها الأمة أكثر من 70 ألف جندي وأراضي سيناء، والجولان، والقدس الشرقية، وغزة، والضفة الغربية، اجتمعت القمة لترفع «لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض»، غير أن «اللاءات» لم تصمد إلا سنوات قليلة؛ تحولت من عقيدة قومية إلى شعارات إعلامية فارغة، بينما كان التطبيع السري قد بدأ بالفعل.

3- عام 1978م: «كامب ديفيد».. الانقسام الأكبر: وقّعت مصر اتفاقية سلام مع «إسرائيل»، فاهتزت المنطقة؛ فانعقدت قمة بغداد للرد، لكنها لم تستطع تجاوز الانقسام؛ دول ترى «إسرائيل» عدوًا أبديًا، وأخرى تراها جارًا يمكن التعايش معه، منذ تلك اللحظة، صارت القمم مؤتمرات لإدارة الانقسام لا لحله.

4- عام 2002م: مبادرة بيروت للسلام: طرحت السعودية مبادرة الاعتراف الكامل بـ«إسرائيل» مقابل انسحابها لحدود عام 1967م، فجاء رد الاحتلال بالتهكم! مزيد من الاستيطان، ومجزرة جنين في الشهر نفسه، ومع ذلك، تمسكت الأنظمة بالمبادرة كإنجاز وهمي، بينما ماتت منذ ولادتها.

5- قمم الحروب الدموية: في كل حرب على غزة (عام 2008م (1417 شهيدًا)، عام 2012م (174 شهيدًا)، عام 2014م (2200 شهيد)، عام 2021م (256 شهيدًا)، ومنذ 7 أكتوبر 2023 حتى اليوم أكثر من 45 ألف شهيد)، وفي كل عدوان على لبنان واليمن والعراق، لم تتجاوز القمم العربية بيانات الشجب، وبينما كان الأطفال يُنتشلون من تحت الركام، كان القادة يلتقطون الصور التذكارية.

هكذا تشكّلت القناعة الشعبية: القمم ليست أدوات مواجهة، بل مسرحيات سياسية تُعاد كل مرة.

ثانيًا: اغتيال الدوحة.. جريمة سياسية ورسالة إستراتيجية:

عملية الاغتيال التي نفذها الاحتلال في قلب الدوحة ليست مجرد عملية أمنية فحسب، بل جريمة سياسية مركبة ذات رسائل خطيرة:

1- ضرب السيادة: قطر، الدولة المستقلة العضو في الأمم المتحدة، استُبيحت عاصمتها أمام صمت العالم.

2- إهانة جماعية: الرسالة موجهة لكل العرب: سيادتكم ورقية.

3- استهداف الداعم للمقاومة: فالدوحة مارست دور الوسيط السياسي، واحتضنت الحوار الفلسطيني، ووفرت منصة إعلامية قوية عبر الجزيرة.

4- تكريس الإفلات من العقاب: الاحتلال واثق أن لا رد عربي حقيقياً، ولا عقوبة دولية تقترب منه.

الأدهى أن القمة العربية التي انعقدت بعد الحادث تعاملت معه كحادث عابر، لم تجرؤ على القول: «الاعتداء على قطر اعتداء على الجميع»، وهنا يتضح أن المنظومة الرسمية فقدت حتى القدرة على حماية نفسها.

ثالثًا: الإستراتيجية «الإسرائيلية».. منطق القوة فوق القانون:

منذ تأسيسها، بنت «إسرائيل» إستراتيجيتها على 3 ركائز:

1- الاغتيال كأداة ردع: من بيروت حيث اغتيل كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، إلى تونس حيث اغتيل خليل الوزير (أبو جهاد)، إلى دمشق حيث اغتيل عماد مغنية، وصولًا إلى الدوحة؛ الهدف هو كسر رموز المقاومة.

2- استباحة العواصم: لإرسال رسالة أن لا مكان عربياً محصن؛ لا بيروت، ولا دمشق، ولا حتى الدوحة.

3- القوة فوق القانون: «إسرائيل» لا تعترف بالقانون الدولي إلا حين يخدمها، أما حين يُقيدها فتدوسه دون تردد.

الجديد أن الدوحة، باعتبارها مركزًا دبلوماسيًا عالميًا، كانت إحدى «المحرمات»، والاحتلال كسرها بثقة كاملة أن لا ثمن سيدفع.

رابعًا: الشعوب مقابل الأنظمة.. هوة لا تُردم:

بينما اكتفت القمم ببيانات باهتة، كانت الشوارع العربية تمتلئ بالغضب:

  • الشعوب ترفع علم فلسطين وتردد أن القضية مركزية.
  • الأنظمة تتعامل مع فلسطين كملف تفاوضي مجمّد.
  • الشعوب ترى في المقاومة مشروع كرامة وحرية.
  • الأنظمة تراها عبئًا يعيق علاقاتها مع الغرب.

خامسًا: البعد الدولي.. ازدواجية المعايير:

اغتيال الدوحة فضح مرة أخرى الازدواجية الفجة في النظام الدولي:

  • حين تُمس سيادة أوكرانيا، تتحرك الأساطيل وتُفرض العقوبات الفورية.
  • حين تُمس سيادة قطر، أو يُباد 65 ألف فلسطيني في غزة خلال عامين من العدوان، يكتفي العالم بعبارة «ندعو إلى ضبط النفس».

بهذا السلوك، يساهم الغرب في ترسيخ «شرعية القوة»، ويمنح «إسرائيل» الضوء الأخضر لمزيد من الجرائم، وهذا ما يدركه الشارع العربي جيدًا، ولهذا يزداد تمسكًا بخيار المقاومة باعتباره الخيار الوحيد الباقي.

سادسًا: قراءة إستراتيجية للمستقبل:

  • فقدان الثقة الشعبية: لم يعد أحد يترقب القمم بجدية؛ الشعوب تعلم أن لا خلاص فيها.
  • شرعية المقاومة تزداد: كلما فشلت الأنظمة؛ ازداد الالتفاف حول المقاومة.
  • تآكل شرعية النظام العربي الرسمي: العجز المتكرر أمام الاحتلال سيعمق عزلة الأنظمة عن شعوبها.
  • غليان الشارع العربي: المليونيات في المغرب العربي، والأردن، واليمن، والعراق، مؤشر أن الأمة لم تمت.
  • «إسرائيل» خطر وجودي على الأمن القومي العربي: من غزة إلى الدوحة، لم يعد العدوان شأنًا فلسطينيًا، بل تهديدًا للعرب جميعًا.

سابعاً: بيان التاريخ ضد العجز:

القمة الأخيرة لم تكن مجرد محطة سياسية؛ كانت شهادة واضحة على أن النظام العربي الرسمي قد فقد القدرة على حماية أبسط ثوابته، وبينما تُباد غزة بلا توقف منذ عامين، وتُستباح الدوحة في وضح النهار، لا يجد القادة سوى بيانات مكرورة.

لكن الشعوب لم تعد تنتظر، فإن الهزيمة ليست قدرًا، لأن المقاومة التي تصمد في غزة، والجماهير التي ترفع رايات فلسطين في عواصم الأمة، تقول بصوت واحد: المستقبل لن يُكتب في القاعات المكيّفة، بل في ميادين المقاومة، وفي كل شارع يرفض الصمت.

إنها ليست معركة سياسية، بل معركة وجود وكرامة، والقمم التي تكتفي بالشجب لم تعد تمثل إلا نفسها، أما الشعوب فهي التي تكتب التاريخ بدمائها وترفع راياتها بإرادتها.

ويبقى السؤال: هل ستظل القمم عنوانًا للهزيمة، أم ستولد من رحم الشعوب والمقاومة قمة جديدة، هي القمة الوحيدة التي تستحق أن تُذكر في تاريخ هذه الأمة؟


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة