قصة عبد الملك بن مروان مع الأصدقاء ... المنصب لا يغير الأصلاء

قصة عبد الملك بن مروان مع الأصدقاء ... المنصب لا يغير الأصلاء

محرر قصص وعبر

21 أكتوبر 2025

464

حكى مالك بن عمارة اللخمي قال: كنت أجالس في ظلّ الكعبة أيام الموسم عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنّا نخوض في الفقه مرّة، وفي المذاكرة مرّة، وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرّة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك: من الاتساع في المعرفة، والتصرّف في فنون العلم، وحسن استماعه إذا حدّث، وحلاوة لفظه إذا حدّث. فخلوت معه ذات ليلة فقلت: والله إني لمسرور بك لما أشاهده من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال لي: إنك إن تعش قليلا سترى العيون طامحة إليّ، والأعناق قاصدة، فلا عليك أن تعمل إليّ ركابك فلأملأنّ يديك. فلما أفضت إليه الخلافة شخصت أريده، فوافقته يوم جمعة وهو يخطب الناس على المنبر، فلما وقعت عينه عليّ بسر في وجهي وأعرض عنّي، فقلت: لم يثبتني معرفة أو عرفني فأظهر لي نكرة، لكني لم أبرح مكاني حتى قضيت الصلاة ودخل، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت وأخذ بيدي وأدخلني عليه، فلما رآني مدّ إليّ يده وقال: إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلّا ما رأيت من الإعراض والانقباض، فأما الآن فمرحبا وأهلا، كيف كنت بعدي، وكيف كان مسيرك؟ قلت: بخير وعلى ما يحبّه أمير المؤمنين.

فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟ قال، قلت: نعم وهو الذي أعملني إليك.

فقال: والله ما هو بميراث ادّعيناه ولا أثر رويناه، ولكني أخبرك من نفسي بخصال سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى: ما لاحيت ذا ودّ قط، ولا شمتُّ بمصيبة، ولا قصدت كبيرة من محارم الله متلذّذًا بها واثبًا عليها، وكنت من قريش في بيتها، ومن بيتها في واسط قلادتها، فكنت آمل بهذه أن يرفع الله لي، وقد فعل، يا غلام بوِّئه منزلا في الدار. فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق إلى رحلك، فكنت في أخفض حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر عشاؤه وغداؤه أتاني الغلام فقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس، فأمشي بلا حذاء ولا رداء، فيرفع من مجلسي ويقبل على مجالستي، ويسألني عن العراق مرة وعن الحجاز مرّة، حتى مضت لي عشرون

ليلة، فتغديت يومًا عنده، فلما تفرّق الناس نهضت للقيام فقال: على رسلك أيها الرجل، فقعدت فقال: أيّ الأمرين أحبّ إليك: المقام عندنا، ولك النّصفة في المعاشرة والمجالسة مع المواساة أم الشخوص ولك الحباء والكرامة؟ فقلت:

فارقت أهلي وولدي على أني زائر لأمير المؤمنين وعائد إليهم، فإن أمرني اخترت فِناءه على الأهل والولد. فقال: بل أرى لك الرجوع إليهم فإنهم متطلّعون إلى رؤيتك، فتحدث بهم عهدًا ويحدثون بك مثله، والخيار بعدُ في زيارتنا والمقام فيهم إليك، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك، أتراني ملأت يديك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أراك ذاكرًا ما رأيت عن نفسك، قال: أجل ولا خير فيمن ينسى إذا وعد، ولا ينسى إذا أوعد، ودّع إذا شئت، صحبتك السلامة.

فوائد وعبر:

تحمل القصة مجموعة من القيم الأخلاقية الرفيعة التي تجسّد شخصية الخليفة عبد الملك بن مروان، وتقدّم نموذجًا للحاكم العالم العادل صاحب الخلق الراقي.

ومن أهم القيم الأخلاقية والدروس والفوائد في القصة:

1. الوفاء بالوعد

   عبد الملك لم ينسَ ما وعد به مالك بن عمارة قبل أن يتولى الخلافة، بل وفّى بوعده رغم مرور الزمن وتغيّر الحال.

2. العفّة والنزاهة

   قوله: "ما لاحيت ذا ودّ قط، ولا شمتُّ بمصيبة، ولا قصدت كبيرة من محارم الله..." يُظهر نقاء ضميره، وبعده عن الخصام والشماتة والمعاصي؛ مما يدل على صفاء النفس وعلوّ الهمة.

3. التواضع بعد بلوغ المنصب

   رغم مكانته بوصفه خليفة، لم يتكبر على مالك، بل استقبله بحفاوة، وجالسه، وأكرمه، واستمع إليه باهتمام.

 4. العدل في السلوك والمواقف

   حين رآه أول مرة في المسجد بعد أن أصبح خليفة أعرض عنه توقيرًا لمقام الخطبة، ثم بيّن له لاحقًا سبب تصرفه حتى لا يظن به سوءًا.

5. الكرم وحسن المعاملة

   أحسن ضيافته، وجالسه عشرين ليلة، ثم ودّعه بعشرين ألف دينار وكسوة، وهو كرم مادي ومعنوي في آن واحد.

6. الاعتدال في الحكم على النفس

   عبد الملك لم يدّع العصمة أو الفضل المطلق، بل أرجع مكانته إلى اجتهاده في تهذيب نفسه وسلوكه القويم.

تحليل أدبي:

1. الشخصيات

- عبد الملك بن مروان: الشخصية المحورية، مثقفة، عالمة، وذات خلق رفيع، تمثّل نموذج "الحاكم العاقل العالم".

- مالك بن عمارة: راوٍ صادق محايد، ينقل الموقف بإعجاب وتأمل؛ مما يمنح القصة صدقًا واقعيًا وتاريخيًّا.

2. الزمان والمكان

- الزمان: في موسم الحج قبل تولي عبد الملك الخلافة، ثم بعد تولّيه.

- المكان: ظل الكعبة ثم قصر الخلافة، في انتقال رمزي من "مكان العبادة" إلى "مكان الحكم"، يجمع بين الدين والدنيا.

3. الحبكة

- بداية: لقاء العلماء في ظل الكعبة.

- وسط: وعد عبد الملك قبل الخلافة، ثم تجاهله الظاهري بعد تولّي الحكم.

- ذروة: تفسير الموقف وإكرام الضيف.

- نهاية: تحقق الوعد بالوفاء والكرم.

الحبكة محكمة تقوم على الانتظار ثم المكافأة.

4. الأسلوب

- أسلوب سردي واقعي يجمع بين الحوار والوصف.

- الحوار الطبيعي يضفي الحيوية ويكشف الطبائع.

- اللغة فصيحة جزلة، تحمل نغمة الاحترام والعلم والهيبة.

أهم المعاني:

فلا عليك أن تعمل إليَّ ركابك: تُجَهِّزُ رحالك وتأتي إليَّ.

لأمْلَأَنَّ يَدَيْكَ: كناية عن الإعطاء الكثير والجود بالمال.

لَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ: وصلت وانتهت إليه.

شَخَصْتُ أُرِيدُهُ: سافرت وارتحلت إليه.

بَسَرَ في وجهي: أظهر العُبوس.

لَمْ يَثْبُتْنِي مَعْرِفَةً: يُقِرّ بمعرفتي.

أظهر لي نُكْرَة: إنكار المعرفة وعدم الاعتراف.

الْإِعْرَاضُ وَالِانْقِبَاضُ: التزام الجدية والوقار والابتعاد عن المرح.

مَا لَاحَيْتُ ذَا وَدٍّ قَطُّ: خاصمت وجادلت

وَسِيط قلادتها: أوسط وأفضل شيء، كالجوهرة في وسط القلادة.

بَوِّئْهُ مَنْزِلًا فِي الدَّارِ: أعدَّ له وأسكنه.

في أَخْفَضِ حَالٍ: في أطيب وأحسن حالة

الْخِيَارُ بَعْدُ فِي زِيَارَتِنَا: الخيار متاح لك بعد هذا.

الْحِبَاءُ وَالْكَرَامَةُ: العطية والهدية.

لا خَيْرَ فِيمَنْ يَنْسَى إِذَا وَعَدَ: ينسى وعوده عندما يعطي.

وَلَا يَنْسَى إِذَا أَوْعَدَ: ينسى وعيده عندما يعاقب، أي ينبغي أن ينسى التهديد ويتسامح.

الخلاصة والعبرة العامة:

القصة تقدم نموذجًا راقيًا للحاكم المسلم الذي يجمع بين العلم والخلق، وبين القوة والتواضع، وتؤكد أن طريق الرفعة يبدأ من صفاء السريرة وحسن السلوك، لا من النسب أو السلطة، وأن الرفعة الحقيقية هي رفعة الأخلاق قبل رفعة المناصب.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة