عندما تتنفس الأمة برئتيها
أجنح بين الفينة والأخرى إلى المطالعة في كتاب «البداية والنهاية»، وقدَراً وقعت عيناي على قاضي قضاة الأندلس منذر البلوطي، وكان إماماً عالماً فصيحاً خطيباً شاعراً أديباً جامعاً لصنوف من الخير والتقوى، وقد قحطت الأرض في بعض السنين، فأمره الملك أن يستسقي للناس، فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك؟ قال: تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعاً، فقال القاضي: سقيتم والله، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء.
ثم قال لغلامه: نادِ
في الناس الصلاة، فجاء الناس إلى محل الاستسقاء وصعد القاضي المنبر والناس ينظرون إليه،
فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به قول الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا
فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: 54)، ثم أعادها مراراً؛
فأخذ الناس في البكاء والنحيب والتوبة والإنابة، فلم يزالوا كذلك حتى سُقوا ورجعوا
يخوضون الماء(1).
وقلت ساعتها: ما
أجمل أن تتنفس الأمة برئتيها؛ بالعلماء العاملين الناصحين، والأمراء النابهين
المخلصين، ساعتها ستجد أمتنا في طليعة الأمم!
العلماء الربانيون
للعلم والعلماء
مكانة في الدين لا تُنكر، وفضل كبير لا يكاد يُحصر، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وقناديل
الضياء، وقرة عين الأولياء، وهم أركان الشريعة وحماة العقيدة، ينفون عن دين الله
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضالين، وهم واسطة العقد بين الخالق
والمخلوقين، والنجوم المضيئة في سماء رب العالمين.
وكلما عصفت
بالأمة الفتن العاتية، كانوا الركن الركين والملاذ الرصين، اقترن اسمهم باسم رب
العالمين والملائكة المقربين؛ (شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل
عمران: 18).
وهم أكثر الناس
استقامة وأشدهم لله خشية؛ (وَمِنَ
النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ) (فاطر: 28)، وقال جل جلاله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن
دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79)، وقال فيهم الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا
دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر» (سنن أبي
داود (3641).
ويقول عنهم
الإمام ابن القيم رحمه الله: «هم ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما
بعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طرقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب
الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم، وهم
الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه»(2).
إنهم علماء
عاملون، أئمة مهديون، سادة مرشدون عابدون زاهدون، يصدعون بالحق لا يخافون، أمناء
على ثغور الإسلام لا ينحرفون، كلما هوى نجم أحدهم بزغ فجر آخرين؛ «فإن هذه الأمة
أكمل الأمم، وخير أمة أخرجت للناس، ونبيها خاتم النبيين لا نبي بعده، فجعل الله
العلماء فيها كلما هلك عالم خلفه عالم، لئلا تطمس معالم الدين وتخفى أعلامه، وكان
بنو إسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي، فكانت تسوسهم الأنبياء، والعلماء لهذه الأمة
كالأنبياء في بني إسرائيل»(3).
فما أحوجنا في
هذه الأزمان إلى التمسك بغرز العلماء الربانيين في ظل هذه الفتن المتراكمة والمحن
المتلاطمة والشبهات والشهوات المتتابعة!
الأمراء الناصحون
الحكم أمانة
عظيمة، ومهمة ثقيلة، وتبعة كبيرة يجعلها الله تعالى في عنق من يشاء من عباده، فينبغي
للحاكم أن يكون ناصحاً أميناً، وعادلاً عليماً، وصادقاً نزيهاً، فالأمانة بلا قوة
ضعف، والقوة بلا أمانة فجور، وماذا يستفيد العاقل إذا حكم الدنيا بأسرها ولم يعدل،
ويوم القيامة خسر نفسه وضل سعيه؟! (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ
اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء:
58)، (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26).
ومن مفاخر
تراثنا الإسلامي وصية رائعة أرسلها صاحب القلب النقي الحسن البصري إلى الخليفة
الراشد العمري عندما أرسل إليه يستنصحه، فكتب إليه في رسالة طويلة:
«اعلم -يا أمير
المؤمنين- أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد،
وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف.
والإمام العادل
-يا أمير المؤمنين- كالراعي الشفيق على إبله الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب
المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنها من أذى الحر والقر.
والإمام العادل
-يا أمير المؤمنين- كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً،
يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته.
والإمام العادل
-يا أمير المؤمنين- كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً ووضعته كرهاً،
وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته،
وتغتم بشكايته.
والإمام العادل
-يا أمير المؤمنين- وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم.
والإمام العادل
-يا أمير المؤمنين- كالقلب بين الجوارح؛ تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده.
والإمام العادل
-يا أمير المؤمنين- هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر
إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن -يا أمير المؤمنين- فيما ملّكك
الله عز وجل، كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال،
فأفقر أهله، وفرق ماله.
واعلم -يا أمير
المؤمنين- أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من
يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟!»(4).
رسالة جمعت
فأوعت، وأوجزت فأبلغت، بها جملة من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الحاكم، فلله دره،
ما أدقه من وصف! وما أبدعه من تشبيه!
وولي الأمر مسؤول
أمام الله تعالى عن سياسة الدنيا وحراسة الدين، وعلى الرعية السمع والطاعة إرضاء
لرب العالمين.
وختاماً، فإن
كان العلماء يعلمون الأمر، فإن الأمراء ينفذون الأمر، وهما جناحا الأمة، بهما تزول
الغمة وتنقشع الظلمة؛ «ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان
الناس كلهم لهم تبعاً؛ كان صلاح العالم بصلاح هاتين الفئتين، وفساده بفسادهما، كما
قال عبدالله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا
فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء»(5).
ويعلم الله أننا
نود من صميم قلوبنا أن تكون أمتنا راسخة البناء، سخية العطاء، رائعة الطلاء.
____________
(1) البداية
والنهاية (11/ 288 – 289).
(2) طريق
الهجرتين (1/ 516).
(3) مفتاح دار السعادة (1/ 451).
(4) العقد الفريد لابن عبد ربه (1/ 12).
(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 10).