7 طرق لتحويل الصبر من معاناة إلى طاقة داخلية
في الوعي الجمعي
يفهم الصبر على أنه حالة سلبية من التحمل أو الكبت، لكن الرؤية القرآنية تقدمه
كقوة روحية تصنع التوازن النفسي وتمنح الإنسان السيطرة على ذاته في وجه التقلبات؛
قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا
صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه) (النحل: 127)، هذه الآية تؤسس لفهم جديد للصبر؛
فهو ليس عجزاً، وإنما اتصال بالله يمنحك طاقة الهدوء والثبات.
يقول ابن القيم:
الصبر قوة من قوى النفس تمكنها من مقاومة الهوى والجزع، ليس خنوعاً بل ثباتاً»(1).
إن النصوص
الشرعية تحمل تصوراً آخر غير معاني الألم والقسوة والشدة والمر، كما يصف الناس
الصبر به، إنه ليس معاناة وليس توقفاً عن الحركة، بل هو حركة هادئة، واستنفاد الأسباب،
وحالة من النضج الإنساني والراحة النفسية، خاصة أن الله عز وجل قد ربط بين الصبر
والطمأنينة فقال تعالى: (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ) (البقرة 155).
والنبي صلى الله
عليه وسلم حين ذكر الصبر ربطه بالرحمة لا بالقسوة فقال: «ومن يتصبر يصبره الله» (أخرجه
البخاري)، فالصبر معونة تبنى وتكتسب، فإلى صبر إيجابي يرفع من همة وشأن صاحبه:
1- غيِّر نظرتك.. الصبر من تحمل الألم إلى إدارة التحدي:
كثيرون يرون
الصبر استسلاماً للواقع، بينما في الإسلام فن إدارة النفس عند البلاء، يقول تعالى:
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ) (البقرة)، فبمجرد وقوع الابتلاء يرجع العبد لله عز وجل، ثم ينظر
من زاوية أخرى للحدث، وهو الخطوة الأولى لتحويل الصبر إلى طاقة إيجابية؛ أنت لست
ضحية، ولست مغضوباً عليك من ربك، وغير معاقب، بل أنت متدرب على الصمود.
هذا الوعي يجعل
التجربة وسيلة للنضج لا جرحاً متكرراً، يقول الغزالي: «الابتلاءات ليست عذاباً، بل
مواد لتربية الإرادة وتقوية النفس»(2).
2- اربط الصبر بالهدف لا بالألم:
الصبر السلبي
يقبض النفس، مدعاة للقلق والاكتئاب واستثقال الوقت مع الانتظار الصامت، فالصبر
يفقد معناه ورسالته وهدفه حين يكون مجرد انتظار عابر، لكنه يصبح طاقة هائلة عندما
يرتبط بهدف أكبر؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله
خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» (رواه
مسلم).
فالمسلم حين
يعرف لماذا يصبر يصبح الصبر قراراً لا حالة اضطرارية، وهو لا يصبر لأنه لا يملك
خياراً، بل لأنه يدرك أن الله يعده لمرحلة أنضج.
يقول ابن تيمية:
«الصبر بلا نية ولا هدف شبيه بالجماد، وأما الصبر لله وفي سبيله فهو أعلى مقامات
العبودية»(3)، وليعلم المسلم ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم
فيما رواه الترمذي: «واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك».
3- حوِّل الصبر إلى فعل إيجابي:
الصبر الحقيقي
لا يعني الجمود، بل العمل الهادئ رغم الألم، يقول تعالى: (فاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) (ق: 39)، فالله عز وجل لم يأمر نبيه بتحمل الألم الناتج عن
الابتلاء الحتمي لكل مسلم، بل أمره سبحانه بفعل إيجابي يأخذ اهتمام النفس لأمر آخر؛
وهو التسبيح، فكل فعل نافع تقوم به أثناء وقوع الابتلاء نوع من أنواع الصبر
الجميل، كأن تسبح، وتقوم للصلاة، وتبحث عن حل للخروج من الأزمة، وتبحث في الأسباب
لتصلحها مع الحفاظ على ثوابتك العقدية والأخلاقية، يقول الرازي: «الصبر لا يتحقق
بالسكوت، بل بالتحرك نحو ما يرضي الله مع كظم الغيظ»(4).
4- استمد طاقتك من التوكل لا من العزلة:
والصبر ليس
انسحاباً من الحياة، وإنما ارتباط أوثق بالله، يقول تعالى: (ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3)، فحين يتحول الصبر إلى توكل إيجابي، يصبح
القلب مطمئناً مهما اشتد البلاء، لأنك تدرك حينئذ أن الأحداث تسير بقدر الله، لا
بظلم الناس، هذا إيمان يمنحك طاقة ذهنية وروحية تمكنك من التوازن دون الانهيار.
يقول الغزالي: «التوكل
هو روح الصبر؛ لأن من عرف أن الله يدبر أمره لم يضق صدره بالابتلاء»(5)، وهنا يجب
الانتباه، فحسن التوكل لا يعني الركون وانتظار الفرج من السماء، إنما يعني الإعداد
الجيد، والأخذ بالأسباب، والمقاومة الواعية، واستنفاد أسباب النجاح، كل هذا مع
كامل التوكل على الله واليقين بأنه وحده القادر على نصرتك في الوقت الذي يراه
سبحانه في صالحك.
5- حوِّل التجربة إلى وعي يلهم غيرك:
وتعرف أن صبرك
قد أتى ثمرته، حين ترى الطاقة التي تولدها من الصبر تبلغ ذروتها بتحولها لقصة تلهم
الآخرين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا،
نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (رواه مسلم).
فما أجمل من أن
تكون صاحب ألم، ثم تسعى بين الناس جابراً للخواطر، تواسيهم في مصابهم وتحمل عنهم
وتلهمهم الصبر الجميل بصبرك وتجلدك واستعانتك بربك، إنها ذروة الطاقة الإيمانية،
أن تحول الجرح إلى جسر يعبر عليه غيرك بسلام، يقول ابن القيم: «أعلى الصبر أن يثمر
نفعاً للناس، فذلك برهان على صفاء القلب ونور التجربة»(6).
6- إعادة طريقة استقبال الألم.. من المقاومة إلى القبول الواعي:
الألم يزيد
عندما نقاومه، والإنسان في لحظات الشدة وانقطاع الأسباب يميل إلى مقاومة مشاعره
بالاعتراض، يقول لنفسه: لماذا أنا؟ لماذا الآن؟ لماذا يحدث هذا؟ هذه المقاومة تزيد
من التوتر النفسي، وتجعل الألم يتضخم حتى لو كان بسيطاً.
والتأمل في النص
القرآني يغير هذا المفهوم؛ فيقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:
155)، فكلمة «بشيء» هنا يجب أن نتوقف عندها قليلاً، فما نراه حين يقع
الابتلاء أن الحياة قد توقفت، وأن الألم فوق الاحتمال، والشعور بالعجز والاستسلام،
هو عند الله مجرد «شيء»، هو يعلم مسبقاً أنك قادر على تحمله، هو شيء يسير وليس كل
الألم، يقول ابن كثير: «جزء يسير لا يُهلك، بل يوقظ»(7)، فالفكرة أن
الألم ليس موجهاً لكسر الإنسان، بل لفتحه على أعماقه.
7- تحويل وقت الشدة إلى ورشة داخلية لإصلاح النفس:
يمكن أن يتحول
زمن الصبر، أو زمن البلاء -وهو زمن موقوت في علم الله، فلكل شدة مدة وتنتهي- إلى
زمن لمراجعة النفس، وتصحيح النوايا إن كان ثمة تقصير في تلك الجزئية قد سبق وقوع
البلاء، والتأمل، واكتساب مهارة ما، والتعلم من التجربة، ويتوافق كل هذا مع حديث
النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر والشكر وأن كلا الحالتين خير، هنا تتحول الضراء
إلى خير، لا بذاتها، بل برد الفعل تجاهها.
والصبر لا يعني
نكران المشاعر وكبتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بكى في وفاة ابنه وقال: «إن
العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه
راجعون» (أخرجه البخاري)، فإظهار المشاعر لا يناقض الصبر، بل يكتمل به، وليكن صبرك
صبراً جميلاً.
إقرأ أيضا
___________________
الهوامش:
(1) عدة
الصابرين، ص34
(2) من كتاب «جدد
حياتك»، ص112.
(3) ابن تيمية،
الفتاوى الكبرى، ج10، ص564.
(4) مفاتيح
الغيب، ج15، ص210.
(5) إحياء علوم
الدين، ج4، ص78.
(6) مدارج
السالكين، ج2، ص78.
(7) تفسير
القرآن العظيم، ج1، ص632.