ماذا يبقى بعد الرحيل؟!
حين ودّعتُ أخي إلى الدار الآخرة!

حديثي هنا عن يومٍ من أيام العمر لم يكن كسائر
الأيام، يوم بدا فيه الموت قريبًا كأنه جليس بيننا، يوم ودّعت فيه أخي الأكبر، ورفيق
دربي، وعون قلبي د، عبدالله يوسف، رحمه الله.
صورة من مشهد الوداع
رأيت جنازته محمولة على الأعناق، ورأيت وجوهًا
لم تكن تعرفه إلا بفضله، تبكي عليه كما يبكي الابن على أبيه، ورأيت الفقراء والمساكين
يدعون له بدعاءٍ يخرج من أفواه جائعة ولكن من قلوب عامرة بالحب، فقلت في نفسي: ما أعجب
أمر الإنسان! جسده اليوم على الأكف، وغدًا يُوارى في التراب، لا يملك من دنياه إلا
عمله، ولا يبقى له إلا ذكره.
وإني إذ وقفت على قبره، تذكرت أن الدنيا كبيتٍ
من الرمل، مهما أحكمته فالموج قادم ليجرفه، هي دار امتحان، من علّق قلبه بها تعب، ومن
جعلها زادًا للآخرة انتفع، وقد قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
فما أشبه حالنا بمن يبيت في خيمةٍ وسط الصحراء،
يعلم يقينًا أن الفجر آتٍ، وأنه سيرحل عنها لا محالة، ولكن بعضهم يغتر بزينتها القصيرة
ويظنها قصرًا مشيّدًا!
نتعلم الصبر من غزة
ولئن كان موت أخي مؤلمًا على قلبي، فقد علّمتني
غزة درسًا لا يُمحى؛ هناك ترى الرجل يفقد زوجه وأطفاله في لحظة، فيقوم من بين الركام
مرفوع الرأس يقول: الحمد لله على ما أعطى وما أخذ.
وهناك ترى أمًّا تزف أبناءها الشهداء كما
تُزف العروس، ولسانها يلهج: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وترى شيخًا يفقد بيته وأهله في ساعة واحدة،
فلا يملك إلا أن يسجد لله شاكرًا محتسبًا.
فقلت: ما أهون بلائي بجانب بلائهم! وما أعجز
صبري أمام ثباتهم! ولولا أن الله يربط على القلوب لتفطّرت من شدة البلاء.
إن الموت باب لا بد أن ندخله، وسفر لا بد
أن نرتحله، يطرقنا دون موعد، ويجلسنا بين يدي ربنا للحساب، هو أصدق الواعظين، وأشد
المؤثرين، لو عقل الناس.
ما الموت إلا كتاب مفتوح على كل صفحة من صفحات
الحياة؛ تراه في صرخة مولود، وفي أنين مريض، وفي غياب حبيب، ولكنه مع ذلك لا يُفاجئ
إلا الغافلين، أما المتذكرون فهم في استعداد دائم، يتزودون قبل أن يُنادى عليهم: فلان
بن فلان، إلى جوار ربك.
ما تعلمته من فقد أخي
- أن الرضا بقضاء الله يطفئ نار الجزع.
- أن العمل الصالح هو الكنز الذي لا يضيع.
- أن الأخ نعمة، وإذا فُقد لم يسد مكانه شيء.
- أن الدنيا ظل زائل، لا يطول ولا يثبت.
- أن الصبر تاجٌ لا يوضع على رأس إلا أضاء
وجه صاحبه.
وأوصي نفسي والناس أجمعين بما أوصى به السلف:
- أن نُكثر من ذكر الموت، فإنه يقطع طول الأمل.
- أن نبادر إلى الطاعات، فما تدري أي نفسٍ
تسبق الأخرى.
- أن نبرّ والدينا وأهلينا، فإن الموت يحول
بيننا وبينهم.
- أن نغتنم كل يوم كأنه آخر يوم، وكل صلاة
كأنها صلاة مودّع.
اللهم ارحم أخي د. عبدالله يوسف، واغفر له،
ونوّر قبره، واجعل ما أصابه رفعة له في الدرجات، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، ولا تجعل
الدنيا أكبر همّنا، ولا مصيبتنا في ديننا.