الروح الإنسانية هبة لا تُهدَر

حرمة الحياة في الإسلام.. القصاص حكمة وسلام لا ثأر

 

الحياة نعمة عظيمة ووديعة ثمينة أودعها الله في الإنسان، فهي أول ما يمنح وآخر ما يُسلب، بها تبدأ الحكايات ومنها تنتهي، وبها يُفتَح كتاب الحقوق، فإذا أُغلقت صفحته انقطعت السبل وانتهى كل شيء.

فالحياة ليست مجرد زمن نعيشه، بل أمانة مقدّسة كرّمها الخالق وصانها الشرع، وجعل التعدي عليها تعدياً على الإنسانية جمعاء، فالقاتل لا ينهي حياة فرد فقط، بل يهزّ أركان المجتمع، ويفتح باب الخوف ويكسر جدار الطمأنينة.

لذلك، لم يكن عجباً أن جعلت الشريعة الإسلامية صون الحياة من أولى أولوياتها، وعدت جريمة القتل كبيرة موبقة، وجعلت لذلك من العقوبة ما يردع النفوس ويدفع الفساد، فحرمة الدم في الإسلام ليست حُكماً فقهياً عابراً، وإنما أصل من أصول التشريع وقيمة راسخة لا تتبدل؛ قال الله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة: 32).

وما أبلغ هذا النص الإلهي الذي يضع حداً صارماً لأي عبث بالأرواح، فيجعل النفس عزيزة مصونة لا يُباح قتلها إلا وفق شرع الله وعدله، لا بيد الغضب ولا بهوى الانتقام.

ولأن الإسلام دين حياة، لا يقف عند حدود منع القتل فحسب، بل يمتد ليحرم على الإنسان حتى قتل نفسه، فالمنتحر في الشرع معتدٍ على هبة ربانية، ألقى بها في بئر الألم واليأس، متجاهلاً رحمة الله الواسعة وتدبيره الذي لا يُدرَك بالعقل القاصر؛ ولهذا جاء النهي الرباني في قوله: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29).

فهي رحمة من الله تُحيط بالإنسان حتى في لحظة ضعفه، وتذكّره أن الحياة أغلى من أن تُهدَر بلحظة يأس.

ولم يكتفِ الإسلام بالتحذير والتنبيه، بل سنّ تشريعاً عظيماً يُرهب الجناة ويشفي صدور أولياء الدم، إنه القصاص الذي لم يكن يوماً دعوة للثأر، وإنما ميزان إلهي يزن النفوس ويُقيم العدل، فقال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179).

وهنا تتجلّى عبقرية التشريع الإسلامي؛ ففي قتل القاتل حياة لغيره؛ إذ حين يعلم من تسوّل له نفسه أن يَقتل أنه سيُقتل، فسوف يتراجع عن ذلك ويستتب الأمن وتسكن القلوب ويأمن الناس على أنفسهم؛ تلك الحكمة العظيمة في أن القصاص ليس حياةً في صورته، بل في أثره؛ في ارتداع النفوس عن الغيّ، وفي تهذيب الغضب حين يهدد العقل، وفي ردع أولياء الدم عن أن يُنصّبوا أنفسهم قضاة وجلادين، فكم من جريمة قادت إلى أخرى! وكم من فتنة اشتعلت لأن القاتل تُرِك دون جزاء! والفتنة التي تشتعل بعد الجريمة قد تُزهق أرواحاً أكثر من القاتل نفسه.

إن حياة الفرد في نظر الإسلام ليست حياة فرد فقط، بل لبنة في بناء المجتمع، فإن اهتزّت سقط البناء، وإن حُفظت قوي الأساس؛ ولهذا كله جاءت الشريعة تحفظ الحياة من كل باب: من القتل، من الانتحار، من الثأر، من الفوضى، جاءت لتقيم مجتمعاً يؤمن بأن الحياة حق وهبة، لا يُقرّ الاعتداء عليها، ولا يُسوّغ التقصير في حمايتها.

فسلاماً لتلك الشريعة التي جعلت الدماء حراماً، والقلوب أماناً، والنفوس محفوظة بعين الله وعين العدل، ولأمة تُحيي في قلوبها هذه القيم وتزرع في نفوس أبنائها أن الحياة ليست ملكاً لنا، بل أمانة في أعناقنا، نُسأل عنها: كيف حفظناها وكيف احترمناها؟ وكيف سعينا لتكون طمأنينة لا خوفاً، واستقراراً لا فوضى، ورحمة لا عنفاً؟

وإن أولى دروب الأمن المجتمعي أن نحفظ الأرواح، فحيث تسيل الدماء يتعطّل العقل ويهرب السلام، وما القصاص في شرع الله إلا صيانة لذلك الباب من أن يُكسر، وحياة تمتدّ بنورها إلى الجميع.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة