جيل خليجي يختار العزوف عن الزواج!

في زمنٍ كانت
فيه أعراس الحي فرحًا عامًا، يتسابق فيه الجميع لمدّ يد العون، صار خبر الزواج
اليوم استثناءً يثير الدهشة أكثر مما يثير البهجة.
في الخليج، الذي
عُرف بتماسكه الأسري وصلابته الاجتماعية، تتكشف أرقام رسمية ودراسات حديثة عن
منحنى مقلق؛ فالشباب يعزفون عن الزواج، أو يؤخرونه إلى أجل غير مسمى، تاركين
وراءهم فراغًا يهدد بنية المجتمع وقيمه.
أرقام مقلقة
وفق تقارير
وبيانات حديثة، سجلت وزارة العدل السعودية أكثر من 40% انخفاضًا في عقود الزواج،
للعام 2024م، مقارنةً بالعقد الماضي، في مقابل ارتفاع نسب الطلاق المبكر.
وفي الكويت،
أظهرت إحصاءات رسمية أن متوسط سن الزواج ارتفع بشكل لافت ليقترب من 30 عاماً
للرجال، و27 عامًا للنساء.
أما الإمارات،
فقد نشرت مؤسسات اجتماعية بيانات تكشف عن تزايد نسبة غير المتزوجين من الفئة
العمرية 25 – 35 عامًا، لتقترب من ثلث الشباب.
هذه الأرقام
ليست مجرد بيانات جامدة، بل إشارات واضحة إلى تحولات نفسية واقتصادية وثقافية تضغط
على جيل كامل، وتدفعه إلى إعادة النظر في «الميثاق الغليظ» الذي كان يومًا حلم كل
شاب وفتاة، ليصبح ربما كابوساً أو عبئاً.
أسباب واقعية
قد يبدو السؤال
مناقضاً للفطرة التي فطر الله الناس عليها، لكنه الواقع الذي لا مفر من البحث عن
أسبابه في محاولة جادة للإجابة عنه.
خبراء اجتماع
وعلماء دين تحدثوا لـ«المجتمع»، أرجعوا الأمر إلى العادات والأعراف التي تغيرت
استجابة لمتغيرات كثيرة، وأخرى تتعلق بتغير ثقافة الشباب أنفسهم، مع ثورة الاتصال
والتواصل التي غيرت كثيراً مما كنا نظنه ثوابت لدى الأجيال الجديدة، التي تغيرت
نظرتها للزواج، ولم تعد ترى فيه حاجة ملحة وضرورة اجتماعية، وقبل ذلك سُنة
نبوية.
تقول د. ألفت
الصاوي، خبيرة العلاقات الزوجية: إن التكاليف الباهظة، والمهور المرتفعة، التي
أضحت عنواناً للتباهي والتفاخر صارت أحد أهم أسباب عزوف الشباب عن بناء البيوت
وتأسيس عش الزوجية، مشيرة إلى أن كثيراً من الشباب الخليجي يرون أن تأسيس بيت
يحتاج إلى مئات الآلاف من الريالات؛ وبالتالي يضطر إلى تأجيل القرار، وربما العزوف
بالكلية عنه.
وتضيف أن
الأزمات الاقتصادية، وما نتج عنها من ركود وبطالة، وغلاء المعيشة، فضلاً عن تخمة
سوق العمل وضبابية المستقبل الوظيفي كلها عوامل تجعل فكرة الزواج عند الشباب بشكل
عام مخاطرة ومغامرة محفوفة بالأخطار، يجب التعامل معها بحذر شديد.
يعزز ذلك الحذر
الخوف من الفشل، خاصة مع ارتفاع معدلات الطلاق، وكثرة حوادث العنف بين الأزواج،
والصورة السلبية التي رسختها وسائل الإعلام عن الزواج، فضلاً عن تفشي الإباحية
والطرق غير الشرعية للحصول على الجنس، كل هذا جعل من الزواج في نظر البعض مغامرة
محفوفة بالخسائر العاطفية والمادية.
حياة فردية
أما د. محمود
عبدالكريم، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، فقد عزا هذا العزوف لدى الشباب
الخليجي إلى ما أسماه «الثقافة الفردانية»، التي تملكت الشباب، مؤكداً أن منصات
التواصل صاغت نمطًا جديدًا من «الحياة الفردية»، حيث يشعر الشاب بالاكتفاء الذاتي
من خلال صداقات افتراضية، وألعاب ترفيهية، ومساحات تواصل بديلة عن الأسرة، وعن
السكن والمودة والرحمة.
يضيف
لـ«المجتمع» أن جيل الألفية وما بعده يعيش أزمة هوية عاطفية، فهم يطيلون فترة
الدراسة، ويؤخرون الاستقرار الوظيفي، وبالتالي يتأخر الاستعداد النفسي للارتباط،
لافتاً إلى أنه وفي الخليج تحديدًا، تضاعف هذه الأزمة ضغوط الأسرة التي تُحمل
الشاب ما يفوق قدرته من شروط مادية واجتماعية.
الخطورة تمكن،
وفق عبد الكريم، في تشكل نمط مقلق، يتمثل في ارتفاع معدلات «العزوبية الدائمة»، أو
«العنوسة» لدى الجنسين؛ وهو ما يعني تراجع معدلات الإنجاب في منطقة الخليج، التي
تحتاج إلى زيادة سكانية وشبابية لدفع عجلة التنمية، والمحافظة على التوازن
الديمغرافي في مواجهة الوافدين.
خلل ديني
سبب آخر للأزمة
محل النقاش، يلفت إليه الانتباه د. حاتم عبد المجيد، من علماء وزارة الأوقاف
المصرية، يتعلق بما وصفه بتراجع الثقافة الإسلامية لدى الشباب، قائلاً: للأسف هناك
تراجع واضح للثقافة الإسلامية في عقول الشباب، خاصة الخليجي، وذلك بسبب الانفتاح
غير المسبوق على رؤى مختلفة؛ ما يجعل المفاهيم مشوشة في عقول الشباب، وبالتالي
تختلف الأولويات لديه.
ويضيف: الإسلام
لم يجعل الزواج ترفًا، بل وصفه الله تعالى بأنه آية من آياته: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم
مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، والنبي صلى الله عليه وسلم شبّه
الزواج بـ«نصف الدين»، وحث الشباب عليه: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة
فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» (متفق عليه).
حلول ممكنة
ويقترح عبدالمجيد
عدداً من الحلول لهذه الأزمة، منها:
أولاً: ضرورة
مواجهة هذا الانفتاح الذي غيّر قناعات وثقافات الشباب، وإعادة الرؤية الإسلامية
للواجهة مرة أخرى، مطالبًا بتنظيم حملات دعوية تستخدم وسائل وآليات الشباب،
وتستطيع الوصول إليهم.
ثانياً: ضرورة
إعادة الاعتبار للزواج الميسر عبر مبادرات مجتمعية وخيرية تتكفل بجزء من التكاليف.
ثالثاً: أهمية
تثقيف الأسرة حول أخطار المغالاة في المهور، وربط ذلك بمصير الأبناء.
رابعاً: نشر
ثقافة القدوة عبر إبراز نماذج ناجحة لزواج بسيط ومستقر، بدل تضخيم حفلات المشاهير.
خامساً: العمل
على الحد من معدلات الطلاق، وخفض نسب التقاضي بين الزوجين في ساحات القضاء.
سادساً: وقف أي
تشويه متعمد للحياة الزوجية من وسائل إعلام وغيره.
وفي النهاية، تبقى
ضرورة التأكيد على أن الجيل الجديد لم يفقد إيمانه بالأسرة، لكنه يواجه واقعًا
ضاغطًا يحوّل الحلم إلى كابوس، وهنا يتحتم على الجميع؛ المجتمع والدولة والمؤسسات
الدينية والتعليمية والإعلامية، العمل على إعادة الاعتبار للزواج باعتباره رسالة
حضارية، وسُنة نبوية، وفطرة إنسانية، لا مجرد عقد اجتماعي.
اقرأ أيضاً: