تعزيز الثقة بالنفس والأمة.. مفتاح القوة والنجاة من منظور المنهج النبوي

في ظل ما يمر به الإنسان على المستوى
الفردي والحياتي من أمور وخطوب عظيمة تنزل على واقعه اليومي وعلى الأمة، وسط وتيرة
سريعة من التحولات وضبابية في المشهد، خاصة لدى من يغيب عنهم حضور توجيهات المنهج
الإلهي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وغياب السُّنن الكونية وأحداث التاريخ
الإسلامي، كل هذه العناصر صمامات الأمان وعناصر النجاة والقراءة الواقعية لما
يجري.
نتيجة لغياب هذا التمسك وضعف الالتزام،
يسري مع هذه الخطوب مرض ضعف الثقة بالنفس والأمة عند كثير من أبنائها؛ لذا، أحببنا
أن نجلي أمرًا يتعلق بمنهجنا الإسلامي، وخاصة من روائع المنهج النبوي في تعزيز
الثقة بالنفس والأمة؛ في محاولة لإبراز روائع التكوين، ونفاسة المعدن، وغراس
المواهب؛ لمزيد عمل، وتصبر على الألم، وتجديد الأمل، نلخص هذه النقاط العملية فيما
يلي:
أولاً: مراجعة مواطن تعزيز الثقة في القرآن الكريم:
لقد اهتم القرآن الكريم بقضية تعزيز
الثقة بالنفس، وعالج ما يدب في النفوس من مخاوف وفتور وضعف ويأس وقنوط وتصورات
سلبية، وهي أمور كُتبت علينا اختبارًا وابتلاءً.
ينبغي إلينا قراءة ختمة قرآنية كاملة
نتلمس فيها هذا المعنى سواء كان تجاه الرسل أو الأفراد أو الأمة المسلمة؛ لنجد
فكرة التعزيز الدالة على الدعم والتقوية لمواصلة الطريق والخروج الناجح والآمن،
كما هو واضح جليّ في قوله تعالى: (وَاضْرِبْ
لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ {13} إِذْ
أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) (يس)، فالتعزيز المادي أمر تفرضه
الأحوال البيئية لمواصلة الرسالة.
وظل القرآن الكريم يؤكد هذا التأصيل في
النفوس في كثير من الآيات الدالة على هذا الغرض، ومن ذلك قوله تعالى فيمن تلقَّى
هزيمة «أُحد»: (وَلاَ
تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل
عمران: 139)، وقوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ
يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء: 104)، هذه التوجيهات
والبناء لتعزيز أمر الثقة في النفس والأمة تؤدي إلى حسن إدارة الذات، ودفع الأمراض
النفسية، وكيفية مواجهة المواقف الحرجة، ورؤية إيجابية أفضل للأحداث، واتساع مدارك
العقل والتفكير، وتقوية الشعور والعزيمة، وجمع لشتات النفس نحو تفعيل مدروس وغاية
واضحة.
ثانياً: تهميش أصحاب الهزائم النفسية والإعراض عنهم:
تجد الآن ممن يكتبون أو يتكلمون في الشأن
العام وأحداث الأمة ما يفتُّون به عضدها ويُوقعون الهزائم النفسية في أبنائها، وهم
في ذلك ينظرون ويتحدثون باللغة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه
عندما قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ رَجُلًا يَقُولُ: قَدْ هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ
أَهْلَكُهُمْ، يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ هَالِكٌ» (صحيح، أحمد عن أبي هريرة).
هذا أعظم وصف وأحق حقيقة يجب أن نفهمها؛
أنهم أهلك الناس عندما نسمع ونرى هؤلاء وهم ينالون من أمتهم أو من أفرادها، مما
يقعدهم ويورثهم الرعونة والمهزومية التي تمنعهم من مواصلة الدرب واستمطار النصر
وجمع الأسباب للتعامل المحمود مع الابتلاء، فمجرد تطاير هذه العبارات وخروجها من
لسان أحدهم فقد هلك هو، وقائل هذه العبارة: إما حقيقة يعيش هزيمة نفسية داخلية، أو
واقع في تدمير أخلاقي وسلوكي، أو متفاقم الخسارة المادية والحياتية، أو غلبته
النظرة التشاؤمية المنفرة المنبعثة من ضغائن وأحقاد، أو مغرَّر بواقع مادي غربي
منتفش ومبتور ليس معه أدوات النصرة الإلهية والعون الرباني والتكوين المنهجي؛ فوجب
تنبيه الناس عليه وعدم السماع له وتهميشه والإعراض عنه.
ثالثاً: نبذ كل سلوك يضعف الثقة بالنفس والأمة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم دقيقًا
جدًا في معالجة ما يطرأ استثناءً على صفحة حياة الفرد أو الأمة من عوامل ليست
أصيلة في بناء تعزيز الثقة وتنمية الذات، فعند البخاري، ومسلم، عن عائشة رضي الله
عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ
نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي».
فالنبي صلى الله عليه وسلم يدقق في
الألفاظ والسلوكيات التي تطرأ ألَّا تورث ضعف الثقة بالنفس ولا بالأمة، وأن تُقرأ
في سياقها الطبيعي من مقدرات البشر وسُنن التداول، حتى إنه أجاب عن جيش خالد
العائد من «مؤتة» عندما اتهمهم الناس بالفرار قائلًا: «بل هم الكرَّار»، وهذا
النبذ الذي يضعف الثقة بالنفس والأمة أقامه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى
رجلًا مظهرًا للنسك متماوتًا، فخفقه بالدرة وقال: «لا تمت علينا ديننا أماتك الله»،
وفي رواية: «ارْفَعْ رأسَك فإن الإسلام ليس بِمَريِض».
رابعاً: التماس المقياس الحقيقي في موازين البشر والأمم:
المقياس الحقيقي الذي يعزز الثقة بالنفس
والأمة هو إبصار موطن أقدام أفرادها ورؤيتهم السديدة بين يدي ربهم؛ إيمانًا
واتباعًا، وصبرًا ورضا، والتزامًا ومنهجًا، والتماسًا وتسليمًا، فقبلتهم الله عز
وجل وما يرضيه، وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم لزاهر الذي ظن يومًا أن
النبي صلى الله عليه وسلم مازحه عندما قال: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟»، فقال:
يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: «لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ»، أو قال: «لَكِنْ عِنْدَ اللهِ
أَنْتَ غَالٍ» (رواه أحمد، عن أنس)، فنبهه ونبه الأمة لتعزيز هذه الثقة المؤكدة
بنفسها بهذا المقياس الحقيقي بين يدي الله تعالى.
خامساً: تفعيل الاستدراك على النفس كمنهج حياة:
يجب أن يخرج المسلم من نكبة الوقوع
والسقوط التي يمر بها، التي هي حتمية في طبائع البشر وحتمية الطريق، ولذلك عمد
النبي صلى الله عليه وسلم إلى تأسيس معالم القوة في إيمان المسلم عندما رسم له
طريق الاستدراك على النفس، والذي هو نتيجة مصاحبة لتعزيز الثقة بالنفس والأمة، فعن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ
وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ، احْرِصْ عَلَى
مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا
تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدرُ اللهِ،
وَمَا شَاءَ فَعلَ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (صحيح مسلم).
سادساً: قراءة الأحداث بين قدر الله وعفوه:
كل ما يمر بك إنما هو مما قدره الله
تعالى على الإنسان والأمم، وجميع هذا يقتضي الإيمان بالله عز وجل وبقدره، الذي هو
ركن من أركان الإيمان وباب أصيل من أبواب الفهم والتعامل مع الحدث والابتلاء
والواقع.
لكن يجب أن يُقرأ هذا القدر أيضًا بعين
العفو الإلهي، فجميع ما يمر بك إنما يشمله العفو واللطف؛ إذ لم يكن أكثر ولا أكبر
مما جاء، كما أنه لا يدوم عليك إلا بمقدار طاقتك ووسعك، مع تأكيد مجازاتك على صبرك
عليه وتسليمك له ورضاك به، وفوق كل ذلك، لك فيه قدوة سابقة نجحت في تجاوزه وحسن
التعامل معه، فلم تكن فريدًا فيه أو وحيدًا في تلقيه، وهذا ما أكده زيد بن ثابت
لابن الديلمي عندما جاءه قائلًا: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ،
فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ
وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ،
كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ
أُحُدٍ، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ، ذَهَبًا، أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا
قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا
أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ
لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، دَخَلْتَ النَّار».