بيوت طالها الخراب بسبب «السوشيال ميديا»
في عتمة الغرف،
حيث كان يسكن الدفء والحوار، تلمع الآن شاشات باردة تخطف الأنظار وتسرب السكينة من
البيوت، لم تعد الخيانة العدو الوحيد للأسرة، بل برز عدو أكثر دهاءً يختفي خلف
بريق الأضواء ووعود «الاتصال» الافتراضي، ليكون في حقيقته أعظم أداة لقطع الصلات
الواقعية.
إنها منصات
التواصل الاجتماعي، التي حولت جدران البيوت إلى قاعات عرض مفتوحة، يصبح فيها «اللايك»
بديلاً عن نظرة الرضا، والتعليق العام بديلاً عن كلمة الحب الهمسة.
خراب بلا ضجيج
لم يعد خراب
البيوت في عصر «السوشيال ميديا» مقصوراً على الجدران العادية، بل امتد ليطال من
اعتقدنا أنهم يعيشون في بروج من الشهرة والنجاح، فتحول خبر طلاق نجم لامع إلى «ترند»
عابر، تستهلكه الأعين وتنساه الأنفس، تاركاً وراءه قلبين محطمين تحت وطأة
التعليقات الساخرة، حتى من يتصدى للوعظ والإرشاد لم يسلم، فبعض الدعاة وجدوا
تفاصيل حياتهم الزوجية مادة دسمة للنقاش العام!
كاميرا الهاتف دمرت البيت
في واحدة من
القضايا التي تدرسها المحاكم المصرية، قصة زوجين، انهار عالمهما ليس بسبب خيانة أو
خصام، بل بسبب كاميرا هاتف ومنشور على «فيسبوك».
طارق –الذي فضّل
حجب اسمه الكامل– يحكي بنبرة مليئة بالمرارة كيف تحولت حياته الزوجية إلى جحيم لا
يطاق، بعد أن أصبحت زوجته أسيرة لعالم الإعجابات والمتابعين.
«كل يوم تصور
الأكل، حتى لو كان بيضاً وطماطم»، بهذه الكلمات يصف طارق الوسواس الذي استولى على
زوجته، فكل وجبة عادية تتحول إلى حدث إعلامي على «إنستجرام»، مصحوباً بعبارات مثل «نهارنا
أبيض بأكلة بسيطة من إيدي»، في مشهد يختزل مأساة جيل يعيش فوق حافة الهاوية.
ويكشف الزوج عن
المفارقة الصادمة: الناس تعتقد أننا نعيش في نعيم، والحقيقة أننا بالكاد نكمل
احتياجات الأسبوع، فالصور الوردية التي تنشرها زوجته تحولت إلى كابوس في الواقع،
حيث أصبح موضع سخرية واستفهام: «كلما قابلني أحد يقول لي: ما شاء الله، كل يوم
عندكم سفرة؟! وأنا أبحث عن كيلو بطاطس بـ10 جنيهات»!
«وصلنا لدرجة أن
الناس بقت تحسدنا على أشياء ليست حقيقية، والعين فلقت الحجر، والثلاجة أصبحت
فارغة، والديون زادت»! بهذه العبارات يكشف طارق عن التداعيات الخطيرة لهذه
المسرحية اليومية، ويضيف بأسى: «زوجتي لا تفهم أن المظاهر تأكل من عمرنا وتسرق
راحتنا، والمحاولات المتكررة لإقناعها بوقف هذا المسلسل باءت بالفشل، خاصة بعدما
أصبحت ترى نفسها ملهمة لمتابعيها الذين ينتظرون منها الجديد كل يوم! حسب وصفه.
أستوديو مفتوح
«أصبحنا نطبخ
أكلاً بتكلفة فوق قدراتنا ليكون شكله حلو في الصورة»، هكذا أوضح طارق كيف تم
التضحية بالمعايير الحقيقية للعيش الكريم على مذبح الصورة الافتراضية، وبلغت
الأزمة ذروتها عندما رفض الظهور في فيديوهات «تيك توك» يومية؛ ما جعله يشعر بأنه فقد
خصوصيته وكرامته كرجل.
يختتم طارق
حديثه بنبرة حزينة: «لم أتخيل أن حياتي الزوجية ستنتهي بسبب كاميرا موبايل وبوست
على فيسبوك»!
وما تزال
المحكمة تنظر في الدعوى، في مشهد يلخص معاناة جيل يدفع ثمن الحسابات الافتراضية من
واقع حياته.
محادثة خربت البيت
وحكت «م. م» كيف
خربت وسائل التواصل الاجتماعي بيت أختها صغيرة السن وقليلة الخبرة التي انساقت مع
أحد الغرباء وبدأت تحكي له بعض مشكلات بيتها.
ذلك الغريب الذي
يرتدي زي الحكيم الحنون وتسلل إلى الضعيفات عبر وسائل لا تحكمها رقابة ولا تسيطر
عليها قيم أو عادات وآداب، وكانت النتيجة خراب البيت وانهيار جدرانه بعدما علم
الزوج وشاهد المحادثة.
أرقام صادمة
الأستاذة ليندا
حمادة، الاستشارية الاجتماعية، تؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت شيئاً
أساسياً في حياتنا، وكما أن لها إيجابيات فلها أيضاً سلبيات كثيرة، وتشير إلى دراسات
أثبتت زيادة في استشارات الطلاق بنسبة 200%.
وتضيف: من أبرز
أسباب الخلافات الزوجية وجود عالم آخر نعيشه عبر وسائل التواصل من خلال المقارنة، وحرص
الناس على إظهار الجانب الناجح من حياتهم يخلق واقعاً مشوهاً.
وتكشف الأرقام
عن صورة أكثر قتامة، ففي مصر، قفزت حالات الطلاق من 84 ألف حالة في عام 2008م إلى
222 ألف حالة في السنوات الأخيرة، وفقاً لما أشار إليه الخبراء.
وتؤكد إحصاءات
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وصول حالات الطلاق إلى حوالي 213 ألف حالة
عام 2020م، بواقع حالة كل دقيقتين.
تحذيرات خطيرة
تقول هبة حسين،
خبيرة العلاقات الاجتماعية والأسرية، لـ«المجتمع»: لا يخفى على أحد ما طال البيوت
المصرية والعربية من ضعف الترابط الأسري بسبب إفراط أفراد الأسرة في استخدام مواقع
التواصل الاجتماعي.
وتضيف: قد أصبحت
مواقع التواصل تشغل كثيراً من الأزواج عن زوجاتهم بسبب ضعف الإيمان والوازع
الأخلاقي، ونتج عن ذلك أن أصبحت بيوت كثيرة قائمة كشكل اجتماعي فقط ويغيب عنها
المودة والرحمة؛ وبالتالي ضاع المثل والقدوة الحسنة للأبناء.
وتساءلت: كيف
لأب يغلق على نفسه بالساعات ويعيش في عالم افتراضي خاص به أن يكون قدوة ومربياً
لأبنائه؟! هذا غير الأذى النفسي الواقع على الأم.
وتؤكد حسين أن
مواقع التواصل الاجتماعي أصابت الكثير من الأسر بالهشاشة الاجتماعية، مضيفة: حتى
تعود للأسرة ترابطها يجب على كل من يضيع أمانته ويقضي ساعات على مواقع التواصل
متنقلاً بينها أن يعي قيمة الوقت، وأنه سوف يُسأل عنه ويراجع إيمانه ويعلم أن هذا
الوقت من حق زوجته وأبنائه، وأن له دوراً أكبر من مجرد تقضية ساعات لا فائدة منها،
وذلك بتنشئة وتربية وتهذيب أبناء قد يستقيم بهم المجتمع إذا وجدوا من يعينهم
ويوجههم في إدارة حياتهم.
هذه ليست مجرد
قصص منفردة، بل إشارات تنذر بخراب أكبر، خراب يصيب مفهوم الأسرة ذاتها، إنها
فراغات تملأ بيوتنا بضوضاء العالم، تاركة إيانا نبحث في صمت عن بعضنا بعضاً، في
وقت أصبحت فيه الشاشات الصغيرة سكاكين حادة تقطع أواصر البيوت، وتذبح برودة
الخلافات نعمة الاستقرار العائلي.
والسؤال الذي
يظل عالقاً: هل نستطيع استعادة بيوتنا من براثن العالم الافتراضي قبل فوات الأوان؟
اقرأ
أيضاً:
لعنة «فيسبوك»
وأمثاله على الأزواج!
لماذا تنهار
البيوت بعد شهر العسل؟