بين المصيبة والأدب.. ما العلاقة؟

"كل شيء يبدو صغيرًا، ثم يكبر إلا المصيبة، فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر، وكل شيء يرخص إذا كثر ما خلا الأدب فإنه إذا كثر غلا". (نصر بن سيار)
بيان وفوائد:

هذه العبارة تحمل تأملًا عميقًا في طبائع الأشياء ونواميس الحياة.
فهي تقوم على المقابلة والمفارقة بين ظواهر تنمو أو تنقص بمرور الزمن؛ لتكشف عن حكمة في فهم الحياة والناس.
ينقسم القول إلى شطرين:

المصيبة: تبدأ كبيرة ومؤلمة، لكنها تصغر مع الأيام حين تهدأ النفس ويبرد الحزن.

الأدب (بمعنى التهذيب والخلق والعلم): على خلاف سائر الأشياء، يزداد قيمة ورفعة كلما كثر وانتشر.

ويستفاد منها العديد من القيم والأخلاق:

قيمة الصبر: يعلّمنا نصر بن سيار أن الزمن دواءٌ للآلام، وأن الصبر يهوّن المصائب.

فالكبير من الناس هو من يواجه البلاء بثبات، ويدرك أن ما يبدو عظيمًا اليوم سيغدو صغيرًا غدًا.

قيمة التهذيب والأدب: الأدب لا يفقد قيمته بكثرته كما تفقد السلع قيمتها، بل يزداد قدرُه ومكانته؛ لأن جوهره روحٌ وعقل لا مادة.

في ذلك دعوةٌ إلى تعظيم العلم، ورعاية الأخلاق، ونشر الوعي والتهذيب بين الناس.

قيمة الحكمة والتوازن: يجمع القول بين الواقعية (في وصف المصيبة) والمثالية (في تمجيد الأدب)؛ مما يعكس رؤية متوازنة للحياة بين معاناتها المادية وسموها المعنوي.

قيمة النظر العقلي والتفكر: العبارة تبني فلسفتها على الملاحظة الدقيقة لتبدّل الأشياء، وفي هذا حثّ على التأمل في سنن الوجود وتقلّب أحوال البشر.

ومن الدروس والعبر المستفادة كذلك:

دوام الحال من المحال: ما كان كبيرًا سيصغر، وما ظننّاه فادحًا سيخفّ أثره مع الزمن.

الأدب رأس المال المعنوي للإنسان: فكلما ازداد أدب المرء وعلمه، زاد غلاؤه في أعين الناس وكرامته عند الله.

الألم مؤقت، والخلق دائم: المصائب تزول، لكن الأخلاق تبقى زادًا لا ينفد.

تقدير ما لا يُقاس بالمادة: الأدب لا يُوزَن بالكثرة أو الندرة، بل بالقيمة الروحية والعقلية، فهو من الثروات التي كلما شاعت ازدادت بركةً ونفعًا.

العبارة تختصر حكمة التجربة الإنسانية كلها: أن المصائب تزول بمرّ الأيام، وأن الأدب والعلم يخلدان بمرّ الزمان. فهي دعوة إلى الصبر على النوائب، والحرص على تزكية النفس بالعلم والأدب، لأنهما الثروة التي لا تنقص بل تزيد كلما نُشرت.

إشارات بلاغية:

العبارة تتكون من جملتين متوازيتين تشتركان في الأسلوب التركيبي وتعتمدان على المقابلة والمفارقة:

كل شيء يبدو صغيراً، ثم يكبر إلا المصيبة، فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر،
وكل شيء يرخص إذا كثر ما خلا الأدب، فإنه إذا كثر غلا.

هذا التوازي يضفي على القول إيقاعًا لفظيًا متوازنًا وسهولة في الحفظ والتأمل، وهو من سمات الحكم البليغة في الأدب العربي. وتتمثل خصائصها البلاغية في:

أسلوب الحكمة: الجمل قصيرة، مكثفة، ذات دلالة عامة صالحة لكل زمان ومكان.
هذا الأسلوب يشبه أقوال الحكماء والأدباء القدماء مثل قول علي بن أبي طالب: “قيمة كل امرئ ما يُحسن.”

المقابلة (الطباق والمعنى المتضاد): صغيرًا كبيرًا، كبيرة تصغر، يرخص غلا
هذه المقابلات تُظهر المفارقة الزمنية والمعنوية بين الأشياء، وتبرز تبدّل القيم مع مرور الوقت.
كما تمنح القول إيقاعًا متقابلًا يرسخ في الذهن.

الحذف والإيجاز: استخدم نصر بن سيار أسلوب الإيجاز بالحذف؛ إذ حذف كثيرًا من الروابط التفسيرية، فجاء الكلام مركزًا ومليئًا بالمعاني في ألفاظ قليلة — وهذه سمة من سمات البلغاء.

الالتفات المعنوي: من وصف ظواهر مادية (المصيبة، الكثرة، الرخص) إلى قيم معنوية (الأدب، الغلاء)، مما يكشف الانتقال من المحسوس إلى المعقول في نسق تصاعدي من التجربة الحياتية إلى الحكمة الأخلاقية.

عبارة نصر بن سيار قطعة أدبية موجزة من فنّ الحكمة العربية، تجمع بين البلاغة في التعبير والعمق في المعنى، وتؤسس لفلسفةٍ أخلاقية ترى أن الزمن يداوي الألم، وأن العلم والأدب يخلدان رغم تقلّب الأحوال.

اقرأ أيضًا

الصبر على البلاء
حتى يكون الصبر عبادة
أقوال السلف الصالح عن الصبر

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة