بلاغة المناظرات في القرآن الكريم (2)

منير القاضي
من المناظرات العجيبة في القرآن الكريم، والمحاورات البليغة:
7- (إِذْ قَالُوا
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) (الأنعام: 91).
(الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى) التوراة. (القرطاس) الكاغد
والصحيفة من كلّ شيء. (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ) أي: تجعلون التوراة أجزاء مفرّقة
مقطّعة تخفون على الناس منها ما يكون حُجّة عليكم وتبدون الباقي.
الدعوى: لستَ نبيًّا، ولم يَنزِل عليك شيء.
الدليل: لأنك بشر ولا يُنزِل اللهُ على بشر شيئًا.
نقض الدليل: لو كان الله لا يُنزِل على بشر شيئًا لمَا أنزل على موسى كتابًا،
لكنه أنزل على موسى كتابًا تؤمنون به؛ فيه بيان، وفيه هداية، وموسى بشرٌ، فدليلكم
منقوض، فنقض دليل الخصم جاء هنا بقياس استثنائي لا يستطيع الخصم المدّعِي إنكاره
أو معارضته، فهو مُلزِم في مجادلته.
8- (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ {66} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {67} هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ {68} أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) (غافر).
(أَنْ أُسْلِمَ) أنْ أُخلص ديني لربّ العالمين.
(أَنَّى يُصْرَفُونَ) كيف يَقبلون الانصراف عن التوحيد مع قيام الدليل عليه
من أنفسهم.
الدعوى: حق الدِّين أن يكون خالصًا لله.
الدليل: لأنه هو الذي خلق الإنسان أطوارًا: من تراب ثم نطفة ثم علقة، ثم
وثم، إلى أن صار شيخًا، وكلُّ مَن كان كذلك فحقّ الدّين أن يكون خالصًا له، لا حقّ
لأحد آخر أن يشاركه فيه.
وللخصم المناظر أن يعارض في دليل المدَّعِي أو أن ينقضه إن استطاع، أو أن
يمنع مقدمة من مقدماته، ولكن كلّ ذلك يتعذر عليه هنا؛ إذْ كلّ أحد يعترف بأن لا
خالق غير الله، إلّا الملاحدة المنكرين، والكلام ليس معهم -وليسوا في الحسبان-
وإذا أُريد مناظرتهم فهناك أدلة أخرى تتوارد في مناقشهم وتفحمهم حتمًا.
9- (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ {194} أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ
يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ
{195} إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ {196} وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ {197} وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى
لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (الأعراف).
(كِيدُونِ) الكيد: المكر والحيلة. (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) أي: ترى الأصنام كأنها تنظر إليك لدقّة صنعها ولكنها لا
تُبصِر شيئًا لأنها لا حياة فيها.
الدعوى: إنّ الأصنام التي تدعونها عِبادٌ لا آلهة.
الدليل: لأنها ناقصة في ذاتها؛ لا تمشي ولا تبطش ولا تبصِر ولا تسمع ولا
تستطيع نصرًا لنفسها، وكلُّ مَن كان كذلك فهم عِباد لا آلهة.
النتيجة: الأصنام التي تدعونها عِباد لا آلهة.
ودليل عملي آخر: هي الطلب من الخصم أنْ يدعو أصنامه فلتستجب لهم ولكنها لا
تستجيب بلا شك، وأنْ يستنصروا بها فلتنصرهم ولكنها لا تنصر أحدًا بلا شك، وأنْ
يرشدوها إلى الطريق، ولكنها لا تسمع كلامهم فضلًا عن أن تهتدي، ثم ليتدبروا في
أصنامهم فيروا أنها صور ودُمى كأنها تنظر ولكنها لا تبصر، فكلّ هذه الأعمال
المطلوبة من الخصوم هنا تدلّ نتائجها على نفي الألوهية أو أيّ أثر منها عن تلك
الأجسام الميتة.
10- (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس: 38).
(افْتَرَاهُ) اختلقه وتقوَّله. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: إن كنتم
صادقين في دعواكم افتراء القرآن فأقيموا الدليل على ذلك، فدعوى الافتراء ممنوعة.
والدليل هنا على منع دعوى الافتراء هو أنْ يأتوا بسورة واحدة مثله معنًى
وبلاغةً وحلاوةً وحكمةً، على أنّ لهم أن يستعينوا في ذلك بمن شاؤوا من دون الله،
وكان قد تحدّاهم قبل هذا بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ فعجزوا، ثم تحدّاهم هنا
بأن يأتوا بسورة واحدة مثله؛ فعجزوا أيضًا، فلو كان القرآن افتراءً لسَهُل عليهم
الإتيان بمثله؛ لأنّ الافتراء مكسب سهل ولكنه مفضوح.
وهذه مناظرة عملية بَيْن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبلغاء العرب في
زمانه، فإنهم ادّعَوا أنّ القرآن افتراء على الله، ونازعهم النبي -صلى الله عليه
وسلم- مبطِلًا دعواهم بأنْ طلَبَ منهم أن يأتوا بسورة مثل سور القرآن، وهم عرب
مثله، فعَجْزُهم دليلٌ على بطلان دعواهم، وامتناعُهم عن محاولة الإتيان بمثله
دليلٌ على صحة أنه وحيٌ يُوحَى، علّمَه شديد القوى على حدّ ما جاء في مناظرته
لعلماء نجران، إذ قال لهم: تعالوا نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فإذ لم يتقبلوا الدخول في
المباهلة، وانسحبوا من المناظرة؛ ثبت أنه هو الصادق الأمين، وهم الكاذبون في
مزاعمهم.
11- (لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء: 22).
المدَّعِي: الموحِّد.
الخصم السائل: المشرك من وثني وغيره.
الدعوى: الإله واحد في السماوات والأرض وهو الله واجب الوجود.
الدليل: لو كان في السماوات والأرض إله غير الله تعالى لفسدتا، ولكنهما
قائمتان -إلى ما شاء الله- لم تفسدا، بدليل الحسّ والمشاهدة، فليس فيهما إله غير
الله.
وشرحُ هذا الدليل الموجز العبارة، القوي الإشارة، الدقيق المعنى، الأصيل
المبنى: أنه لو كان للعالم إلهان، فإمّا أنْ يتفقَا في إرادتيهما، فلا معنى إذًا
ولا موجب للتعدّد لأنّ إرادة أحدهما كافية على هذا الفرض، فلا وجه لتصوّر إله آخر،
وإمّا أنْ يختلفا في الإرادة، وحينئذ إمّا أن تغلب إرادة أحدهما إرادة الآخر؛
فالمغلوب عاجز والعاجز ليس بإله، وإمّا أن تكون إرادتاهما متعادلتين في القوة،
فيحصل التصادم بينهما، هذا يريد أن تبقى الجبال -مثلًا- أوتادًا، وذاك يريد أنْ يدكها
دكًّا؛ فيتصادمان وكلٌّ منهما قادر على تنفيذ إرادته، فيفسد العالم، ولكن العالم
قائم لم يفسد، فلا تصادُم ولا تعدُّد، بل هو إله واحد وهو الله تعالى.
والخصم ليس في مقدوره أنْ يعارِض أو يمنع أو ينقض الدليل؛ لأن المشاهدة
تكذِّبه، والحسّ يردُّه، فإنَّ العالم قائم غير فاسد، وصالح مؤسّس على نظام دقيق،
تتجدّد عجائبه كلّ يوم، وتكشف غوامضه حينًا بعد حين، وتنجلي دقائقه للناظرين؛ فهو
مِن صنعِ واحدٍ عليمٍ حكيم.
_______________________
المصدر: مجلة «المجمع العلمي العراقي»، مارس 1961م.